سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الجزائر طبعة منقّحة

«الشعب الجزائري ضد أنصاف الحلول، وأنصاف الخيارات، وأنصاف المواقف»، هذا ما قاله عنه نزار قباني، ويعرفه من يزورهم. فهم في معركتهم التحررية ضد فرنسا، التي كانت قد استوطنت وضمت واعتبرت البلاد امتداداً طبيعياً لأراضيها طوال 132 سنة فعلوا ما لم يكن يتخيله أحد، ولا يزال استبسالهم في سبيل حريتهم أمثولة، لكنهم صبروا على الظلم أكثر من قرن. وهم حين يستكينون لهم من الدعة ما يثير العجب أيضاً، فقد احتملوا عشر سنوات من المجازر والإرهاب في تسعينات القرن الماضي، قبل أن يجدوا أمنهم، بمصالحات حلت مع وصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم، لكن أوضاعهم المعيشية بقيت دون المأمول.
والجزائريون لم ينسوا للرجل دوره، ولا ينكرون فضله، لكنهم احتملوا الشدائد، وسكتوا خلال حكمه عن مظالم كثيرة كانوا بغنى عنها. فدولة هي العاشرة عالمياً في النفط وغنية بالغاز وأنواع المعادن، فيها الجبال المكسوة بالثلج والصحراء الممتدة والخضرة، كما الشواطئ الساحرة والآثار الباهرة، وأعطيت من الشباب ما يبني قارة وينعش أرضاً بوراً، يعيش أبناؤها في عسر، وتشلّ البطالة حياة الجيل اليانع حتى بات اليأس حالة مستشرية واللاجدوى مهنة.
لم تبدأ المظالم مع بوتفليقة. وصل الرجل والتركيبة التي احتفظت من الاشتراكية بأسوأ ما فيها، ومنحت بعض المحظيين ليبرالية التمتع بالمال، متجذرة في السلطة.
بمرور الزمن لا بد أن تستفحل الآفات، إن لم تستأصل أو تقصّ بعض أجنحتها. بعد عشرين سنة من الحكم، طمع بوتفليقة بولاية خامسة وهو على كرسي متحرك، مع أنه غائب حتى عن الظهور في الصور إلا للضرورات. ذلك كان حقاً أمراً مستفزاً، به طفح كيل الغضب المتراكم. يعرف الجزائريون أن مستقبلهم أسوأ مما مضى، إن استمرت نسبة النمو تتدنى، كما تبشرهم به الأرقام. الأزمة أخذت تشتد مع طباعة ما يوازي أكثر من 50 مليار دولار من أوراق العملة المحلية. وهو مبلغ طائل لا يتناسب والناتج المحلي، بحيث باتت البلاد مهددة بتضخم لا يطاق، وأزمة مالية شبيهة بما حدث في فنزويلا ويوغوسلافيا.
وهبت الطبيعة الجزائريين كل شيء، وجاءت السياسة لتسلبهم حقهم بالتمتع بها. بلد امتداده ثلاث مرات مساحة فرنسا، فيه من الجمال والتنوع والخيرات ما يجعلك تسأل بأسى ما الذي يجبر أربعة ملايين مهاجر جزائري على احتمال حقد «التمييز» و«الإسلاموفوبيا» ومهاترات «العنصريين» الفرنسيين البغيضة، وبلادهم بهذا البهاء؟ كيف لم تتمكن هذه الأرض التي سقيت بدماء التضحيات الجسام من احتضان أبنائها بعد 57 سنة من الاستقلال؟
ما حدث في الشهر الأخير كان متوقعاً، تأخر بسبب الخوف الأحمر من دموية الثورات العربية، وتجربة العشرية السوداء في التسعينات، ورعب الجزائريين من الوقوع ثانية في دوامة العنف.
لكن يبدو أن التجربة اختمرت، وأن الجزائريين فهموا الدرس، واستخلصوا العبر. أدركوا أنهم ليسوا بحاجة إلى «ياسمين» أو «ربيع» أو أي من الفصول، أو الألفاظ الحماسية من «ثورة» و«انتفاضة» للوصول إلى مطالبهم. اكتفوا بكلمة «حراك» على تواضعها وفي الحركة بركة. رجال السلطة هم أيضاً استفادوا من التجارب العربية العلقمية. بالتواطؤ أو بسبب الخلافات بينهم، حقنوا دماء المتظاهرين، وتدرجت التنازلات إلى أن سلم بوتفليقة استقالته إلى رئيس المجلس الدستوري. لكن آلاف المحتجين المبتهجين، يدركون بحكم تجارب من سبقهم من جيرانهم، أنهم لا يزالون في أول النفق وأن ليلهم طويل ومشوارهم لن يكون سهلاً.
«التوجس» سيد الموقف. المعارضون يطالبون بتغيير جذري، والمطروح من النظام تطبيق الدستور، والالتزام بالقانون. أمر يبدو للمحتجين أن وقته قد فات، وأن الطبقة النافذة كلها طالما كانت متواطئة أو صامتة عن ترشيح بوتفليقة لولاية خامسة أو ساكتة عن الفساد، فهي موضع تشكيك وحذر.
«الآن بدأ التحدي»، «الاستقالة مجرد خطوة في رحلة الألف ميل»، والجميع ينتظر الحشد الكبير لاستكمال المسار والمطالبة بهيئة تأسيسية، ومرحلة انتقالية لها شروطها التي تسمح بأخذ البلاد إلى حياة ديمقراطية واختيار حرّ. ثمة من يلوم رئيس هيئة الأركان أحمد قايد صالح لتدخله في السياسة، لأن الجيش مكانه الثكنات، رغم خطابه الموالي للمتظاهرين وإدانته لمن سماهم «عصابة» استولت على مقدرات الشعب، «وهي الآن بصدد الالتفاف على مطالبه المشروعة».
سقف المطالب مرتفع إذن والمحتجون يعرفون أن عليهم التحلي بصبر حكيم، ونفس طويل، بانتظار سيناريو الغد الذي يلفه الغموض. المنطقة كلها وربما العالم ينظر إلى الجزائر كطبعة، يرجوها منقحة، يمكنها أن تتفادى مآسي ما عاشته خمس دول عربية قبلها. فرنسا التي تحتفي بصفر هجرة من الجزائر منذ اندلعت الاحتجاجات، لا تريد أن ترى قوارب الموت المستغيثة مرة أخرى، وأميركا الخارجة من محنة سوريا جلّ ما قالته إن «مستقبل الجزائر يقرره شعبها». من حسن حظ بلد المليون شهيد أن يصل دوره في الاحتجاج، والجميع قد أنهك وأثخن. الجزائريون أنفسهم تعبوا مما رأوا، وخافوا مما عاشه مَن حولهم.
الأيام المقبلة هي اختبار مفصلي للوعي الجزائري، ولإصرار المتظاهرين على البقاء في الشارع بنفس النبل والتحضر، ولقدرة المعارضين على هيكلة أنفسهم، ولذكاء النظام القائم وتقديره حاجات الناس، ولحنكة الجيش الذي ربما يتطلع للعب دور يرفضه المحتجون رغم حبهم الكبير له. صحيح أن الجزائريين لا يحبون الرمادي، لكنهم بالتأكيد سيفعلون كثيراً كي يبعدوا عن بلادهم شبح اللون الأحمر. حمت السماء الجزائر.