رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

العرب والمبادرات الجديدة في الدولة والدين

شهدت الأعوام الخمسة الأخيرة هجمة شرسة إقليمية ودولية على العرب في الدولة والدين. في الدولة شهدنا النتائج المفجعة لحالة الفراغ أو الخواء الاستراتيجي. وقد ظهر ذلك في شيوع الاضطراب والتفكك في عدة دولٍ عربية بالمشرق والمغرب، فاقم منها التدخل الأجنبي الإقليمي والدولي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وفاقم منها الإصرار من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل على إنهاء القضية الفلسطينية بضمّ القدس، وخنْق السلطة الفلسطينية، وتخليد الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري. في العراق ميليشيات «الحشد الشعبي» الموالية لإيران، وفي لبنان ميليشيا «حزب الله» إحدى أدوات إيران في المنطقة، وفي سوريا إلى الروس والإيرانيين والأتراك هناك ميليشيات إيرانية وغير إيرانية، وفي اليمن إلى الميليشيات الحوثية، أسلحة ومدرِّبون إيرانيون.
أما في الدين، فقد صعدت ميليشياتٌ متطرفة وإرهابية باسم الدين، قتلت وهجَّرت، وأتاحت للأميركيين والروس والإيرانيين وميليشياتهم التدخل في كل مكان باسم مكافحة الإرهاب، ونشر الممارسات الطائفية، وتهجير الملايين. والأهمّ من هذا وذاك اضطرار الدول والمجتمعات إلى الانصراف الكلي للدفاع عن النفس والدين والأوطان، والسَوَحان في العالم معتذرين مما جنته الميليشيات الإرهابية عليهم وعلى العالم.
وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الظواهر المفزعة تنتشر وتتهدد كل شيء؛ انصرف المشككون واليائسون إلى رفع مزاعم الخضوع من جانب الأنظمة والمجتمعات للهوامات الأميركية والصهيونية، وإعطاء ميزات الأمانة والثقة للإيرانيين والأتراك وغيرهم من الشعبويين باعتبارهم الأكثر دفاعاً عن القدس ونُصرة للفلسطينيين، وباعتبار أنّ العرب ما عاد عندهم همٌّ غير الهمّ الإيراني والتركي!
وبالطبع فإنه لا يجوز التقليل من خطورة التدخلات والتخريبات الإيرانية والتركية، والتي تهدّد الدول وسيادتها، والمجتمعات ووحدتها. كما أنه لا يجوز التقليل من خطورة انكسار الثورة السورية، ومن خطورة ظاهرة «داعش» وأخواته.
لكنْ يكونُ علينا ألا ننسى أنّ المبادرة العربية إلى مواجهة هذه الأخطار المحدقة ما عادت متأخرة، وفي الدولة كما في الدين. فمنذ عام 2015 ظهرت مقولة المبادرة ذات الثلاث شُعَب: استنقاذ الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقات بالعالم.
قبل سنتين قام الملك سلمان بن عبد العزيز بعقد «قمة القدس» في الظهران، والتي اختطّت مساراً، ظهرت نتائجه في قمة تونس الأخيرة وإعلانها. فقد حضر قمة تونس معظم الرؤساء العرب، وذكر إعلانُها كل المشكلات التي يصمم الجميع على التصدي لها بل وقد بدأوا ذلك: الإجراءات الأميركية والإسرائيلية في فلسطين، وتجاه الجولان، والتدخلات الإيرانية والتركية، ومكافحة التطرف والإرهاب. كما ذكر الإعلان التضامن لإنهاء النزاع الليبي، والحلّ السياسي في سوريا، والانتصار للشرعية في اليمن. والوقوف مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير من أجل حلّ الدولتين والمبادرة العربية للسلام. سيقول كثيرون: لكنّ العرب قالوا الأمور ذاتها من قبل، وبخاصة بشأن القدس وفلسطين؛ فما الذي يجعل من إعلان تونس أمراً مختلفاً؟ الذي يجعل منه أمراً مختلفاً الحضور الكثيف الذي لم يحدث مثله من قبل، والإجماع على كشْف الأخطار القديمة والطارئة، والإعلان عن التضامُن والإجراءات العملية، والتصريح بالمواجهة من دون اختلافٍ أو تردد. هي حملة كشف حسابٍ بالواجبات، والاستعداد للقيام بها.
أما المبادرة في الشأن الديني، وفي شأن تصحيح العلاقة بالعالم، فتتمثلان في العبور من استنكار التطرف والإرهاب، والاستمرار في العمل على مواجهتهما، إلى طرح البدائل. كان القادة الدينيون في الأزهر ومجلس الحكماء، وفي رابطة العالم الإسلامي، ومبادرة الملك عبد الله، ومنتدى تعزيز السلم، ووزارة الأوقاف المغربية والرابطة المحمدية للعلماء، يجتمعون فيما بينهم، أو مع القادة من الديانات الأُخرى للحملة على التطرف والإرهاب؛ أما في الأعوام الأخيرة، فقد تطورت مؤسساتٌ للتأهل والتأهيل، وهناك إعلاناتٌ مشتركة عن شراكاتٍ مع الآخر العالمي على قدم المساواة مثل وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر رئيس مجلس الحكماء في دولة الإمارات، وهناك إعلان مراكش، وهناك مؤتمر رابطة العالم الإسلامي بمكة عن الوحدة ومخاطر التصنيف والإقصاء. وهناك إعلان الرباط بين الملك محمد السادس والبابا فرنسيس أخيراً. وفي الإعلان حديثٌ عن شراكة الإيمان، والتعاون بشأن حقوق الجوار والضيافة للمهاجرين، ومكافحة الفقر وفساد البيئة والإسلاموفوبيا. بل ويصاحبُ إعلانُ الرباط وثيقة عن القدس باعتبارها داراً للإيمان واللقاء بين الديانات، وليست داراً للاحتكار والإقصاء، ومنع الناس من ممارسة حقهم في العبادة. وإلى ذلك كله يأتي خطاب العاهل المغربي الرائع باللغات الأربع، وخطاب البابا بمنع التبشير.
إن العرب وبعد عقدٍ بل عقدين من الامتحان بالغزو والحصار والاتهام والاعتذارات والإسلاموفوبيا، وفي الدولة والاستراتيجية والدين والعلاقات مع العالم، يبادرون إلى تجديد الإيمان بوحدتهم وحقهم في الحياة مرفوعي الرؤوس: حقهم في أوطانهم وفي أرضهم ومقدساتهم، وفي قوميتهم، وفي أديانهم، لا يريدون أن يخيفوا العالم، ولا أن يخافوا منه؛ بل يريدون المشاركة في صنع سلامه وأمنه وتقدمه.
لا تستطيع التدخلات الأميركية والروسية والإيرانية والتركية والإسرائيلية أن تصنع الحلول بعد أن تسببت في المشكلات. وها هي القوى الدولية تعود لتصنع مع العرب البدائل وليس مع الغزاة الإقليميين وناشري الخراب والقتل والتهجير.
ما نشهده، كما تجلّى في قمة تونس، وفي لقاء العاهل المغربي بالبابا، هو بداية نهوض. وهو نهوضٌ ثقيل التبعات بعد انتكاسات وتخلياتٍ عن المسؤوليات من جهة، وغلبة للقوة القاهرة من جهة ثانية. إنّ ثقافة الحقّ ثقافة محمودة إذا اقترنت بالعمل على استحقاق الحقّ. يقال لنا منذ عقود: إنكم لا تملكون مشروعاً! فما هو المشروع إذا لم يكن حماية الأرض والكرامة، والانضباط في إنجاز ذلك مهما بلغت الصعوبات.