سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

العلوان... يا بت يا فطنة

أصعب وأعقد الألعاب الأدبية هي التنقل السريع على الحبال بين الفصحى والعامية. ففي أي هفوة، أو غفلة، سقوط. ولا تستطيع أن تبني حواراً بين فلاحين من الصعيد بعبارات فصيحة من نوع: عُد يا هذا إلى ديارك. وقد أتقن فن المزج الكيميائي بين اللغتين كبار كتّاب مصر، وظل طه حسين ملحّاً على أن تتحدث خادمة مسكينة بالفصحى. وتحولت العامية المصرية إلى ألحان موسيقية في أعمال يوسف إدريس ونجيب محفوظ. وفي اعتقادي أن الأكثر براعة في العزف على وترين في وقت واحد كان توفيق الحكيم. ليس فقط في تحفته «يوميات نائب في الأرياف»، بل في قصصه القصيرة ومسرحياته ومحاولات التعبير عن مناخ «الروح المصرية» و«الشخصية المصرية» التي لم يخفِ اعتزازه بها، واعتبارها نتاج حضارة من أمهات الحضارات البشرية.
حتى في قلب باريس، متسكعاً بين أحياء مونمارتر والضفة اليسرى، كان الريف المصري يتنقل معه بتعابيره وحلاواته ومساكينه. من أجمل ما كتب عن الريف لوحة وضعها في باريس عام 1927 بعنوان «الأسطى حميدة». والأسطى حميدة هذه كانت صاحبة فرقة، أو «تخت»، في رحلة بالباجور (البابور) من مصر إلى الإسكندرية. وركب أهل التخت في درجة «الترسو» ولا مؤاخذة، وليس في «المفتخر».
من يستقبل الجماعة عند الوصول؟! سألت سُلُم عازفة الرق، بقلق، فأجابت الأسطى حميدة: «العلوان معايا» (العنوان). وفتّشت عن الورقة في ملابسها فلم تجدها، فقالت لرقاصة الفرقة:
- بت يا فطنة (فاطمة)، الورقة اللي اديتها لك، واحنا في الحنطور، فين هي؟ فأجابتها: ما هي ملفوف فيها الصاجات. فضربت الأسطى حميدة على صدرها: الورقة اللي فيها العلوان!
كانت لحظة ثقيلة على الجماعة عندما استعدّ القطار للتحرك «جلسن في سكون عميق كأنما فراق مصر - ولو لمهمة قصيرة المدى - أدخل على نفوسهن أثراً محزناً ووحشة مؤثرة. وأخيراً رفعت الأسطى حميدة رأسها قليلاً، وتنهدت، ثم قالت بتأثر: يا حبيبتي يا مصر».
يتنقل توفيق الحكيم بين عالم الطبقات المسحوقة وعالم الفكر وعالم البورجوازية وعالم الثورة، ومعه ريشة فنان ترشح ألوانها منها. ومن جوار السوربون في باريس، يغرد مثل عصفور، تارة للشرق - تارة للغرب، أما الشجرة الواقف عليها فلا تتغير: مصر.
مصر التي تبدأ الأسطى حميدة بالحنين إليها بمجرد أن يستعد «الباجور» للتحرك نحو الإسكندرية، حيث ستؤدي الفرقة أغاني فرح أحد جدعان المدينة. محمد بيه القطبي، على ما كُتب في العلوان. وقبالة الفرقة في مقصورة الترسو يجلس مجموعة من الأفندية. ويطلب هؤلاء من الأسطى حميدة أن تغني لهم دوراً من أدوارها الجميلة، لكنها منهمكة في خط حاجبها بعود ثقاب. وبعد تدلل، تمسك العود وتغني:
«في العشق قضيت زماني/ وهمي اليوم يكفاني/ آه انظروا جسمي السقيم».