لم يكن سهلاً على الرئيس الذي تربع على مقعده 30 سنة متواصلة أن يلملم أوراقه بهدوء ويغادر منصبه. اتخذ رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، أخيراً، واحداً من أصعب القرارات في حياته. فكّر طويلاً في التداعيات المحتملة. استشار دائرة ضيقة من الأشخاص، بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومجموعة من أقرب المقربين إليه. درس جيداً مع مساعديه الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان انتقال هادئ للصلاحيات إلى الرئيس الذي اختاره خلفاً له. لم يكن قلِقاً من الشارع، فالمعارضة ضعيفة وهشة إلى درجة أنها لا تؤثر على أي قرار أو حدث في البلاد، لكن قلقه كان منصبّاً على بعض مراكز القوى التي قد ترى في انسحابه من القصر الجمهوري فرصة للانقضاض على السلطة. وبعدما استكمل حساباته بشكل دقيق، استدعى التلفزيون الرسمي، وتلا بيان التنحي.
وفي اليوم التالي كانت البلاد تستيقظ على بداية حقبة جديدة، من دون أن تغير شيئاً في نمط حياتها المعتاد. لقد خرج الرئيس من مكتبه، لكنه تربع في مقعد أعلى، فوق كرسي الرئاسة. وراقب الجماهير من موقعه الجديد وهي تحتفل بخلع اسمه على العاصمة التي شيدها بنفسه قبل سنوات، مذكراً الجميع بأن «زعيم الأمة» لا يرحل أبداً عن السلطة.
نور سلطان نزارباييف أسدل بقرار استقالته من منصب رئيس جمهورية كازاخستان (السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى) الستار على مرحلة تاريخية مهمة وطويلة جداً، استمرت ثلاثة عقود لم تعرف البلاد فيها رئيساً غيره. إلا أن الحدث، الذي كان مفاجئاً للقطاعات الأوسع من الشعب الكازاخي ولكثيرين خارج البلاد، لم يكن كذلك بالنسبة إلى فئة محدودة عملت مع الرئيس طوال سنة على التحضير لهذه الخطوة.
احتاج نزارباييف إلى بضعة شهور لرسم ملامح التغيير المقبل. وباشر بوضع خطته منذ أن طلب من المجلس الدستوري العام الماضي أن يقدم له تفسيراً للشروط التي يتضمنها بند في الدستور يمنح الرئيس الحق في التنحي. في ذلك الوقت بدا واضحاً أن نزارباييف يريد أن يقوم بخطوة كبيرة. ثم استكمل ترتيباته في طرح تعديل دستوري أُقرّ بالإجماع في البرلمان، ونصّ على منح رئيس مجلس الأمن القومي صلاحيات واسعة، وتعيين «الرئيس الأول» - وهو لقب نزارباييف رسمياً - رئيساً للمجلس مدى الحياة.
هكذا ضمن الرئيس، بالإضافة إلى الحصانة من أي ملاحقات أو مساءلات، صلاحيات غير مسبوقة، من خلال موقعه الجديد، بعدما كان مجلس الأمن القومي في البلاد مجرد «هيئة استشارية» طوال عقود. وزيادة في تعزيز مكانته في الموقع، قرّر الاحتفاظ برئاسة حزب «نور أوتان» (نور الوطن) الحاكم، وصاحب الغالبية الساحقة من مقاعد البرلمان، فضلاً عن احتفاظه بعضوية المجلس الدستوري الأعلى.
هكذا رتّب الرئيس لـ«خروج آمن» من مكتب الرئاسة، ليبقى «الزعيم الأوحد للأمة»، وهي الصفة التي اتخذت شكلاً قانونياً منذ أقر البرلمان قانوناً بهذا الشأن في عام 2010. ونص القانون في ذلك الوقت على أن «الرئيس الأول، الذي يحمل صفة زعيم الأمة، يمنح هو وأفراد عائلته حصانة مدى الحياة من أي ملاحقات»، ويعاقب القانون مَن ينتهك هذا القانون أو يشكك بـ«زعيم الأمة» بالسجن لمدة خمس سنوات.
آخر الزعماء السوفيات
صعد نور سلطان نزارباييف، الذي وُلِد عام 1940، في مدينة صغيرة قرب العاصمة الكازاخية السابقة الما آتا (ألماتي) لأبوين اشتغلا بالفلاحة، سلّم النجومية السياسية سريعاً من بوابة عضوية الحزب الشيوعي الكازاخستاني. تنقل بين المناصب القيادية في الحزب بسرعة لافتة، ومنذ أن انتخب للمرة الأولى سكرتيراً لفرع الحزب في منطقة صناعية كان يعمل بها وعمره 29 سنة فقط، حتى أتقن طريق الصعود الحزبي بمهارة كبرى.
ولم تمضِ 10 سنوات على ذلك حتى وصل إلى أعلى منصب حزبي في «جمهورية كازاخستان السوفياتية»، ليغدو واحداً من أصغر المسؤولين في الحزب الذين يتسلمون مناصب قيادية أدخلتهم إلى عالم السياسة الواسع الذي لم يغادره بعد ذلك قط. وبمغادرة نزارباييف منصب الرئاسة، ينتهي عهد طويل أمسك فيه بمقاليد السلطة - في فضاء ما كان الاتحاد السوفياتي السابق - زعماء خلعوا العباءة الشيوعية، وارتدوا الأزياء القومية، ورفعوا شعارات وطنية تمجّد تاريخ جمهورياتهم القديم قبل «الثورة البلشفية».
وحقاً، يُعدّ نزارباييف آخر «الزعماء السوفيات» الذين حافظوا على سلطاتهم منذ ذلك الوقت. فقد ظل الوجه الأبرز في كازاخستان منذ عام 1984، عندما عُيّن رئيساً لوزراء الجمهورية السوفياتية السابقة. ومنذ عام 1989 شغل منصب سكرتير الحزب في الجمهورية مع رئاسته للبرلمان، وكان هذا أعلى منصب في الجمهورية إبان العهد السوفياتي، قبل أن يُنتخب رسمياً رئيساً للبلاد في 1991، خلال فترة قصيرة من تفكك الدولة العظمى في السابق.
جدير بالذكر أن نزارباييف كان الزعيم السوفياتي الوحيد في فترة انهيار الدولة العظمى الذي عارض قرار تفكيك الاتحاد في عام 1991، إذ إنه حاول إقناع رؤساء روسيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرانيا بالإبقاء على الاتحاد السوفياتي عبر توقيع «بروتوكول» جديد ينظم علاقة أكثر انفتاحاً بين جمهورياته، لكن جهوده باءت بالفشل. ومن ثم، وضعه رؤساء الجمهوريات الثلاثة أمام «أمر واقع جديد»، عندما اجتمعوا لتوقيع وثيقة تفكيك الاتحاد السوفياتي، بل، وتعمدوا ألا يدعوه إلى هذا الاجتماع لتجنب محاولته إفشال خطتهم.
مع ذلك لم يتأخر نزارباييف كثيراً عندما وجد نفسه أمام واقع جديد، إذ فور الإعلان عن توقيع الوثيقة دعا رؤساء بلدان الجمهوريات السوفياتية إلى اجتماع في الما آتا - التي كانت سابقاً عاصمة كازاخستان السوفياتية - وتغيب عن هذا الاجتماع زعماء جمهوريات حوض البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، التي كانت أعلنت انفصالاً من جانب واحد عن الاتحاد المنحل. وخلال ذلك الاجتماع، برعاية نزارباييف، جرى توقيع وثيقة تأسيس «رابطة (كومنولث) الدول المستقلة»، ليظهر الرئيس الكازاخي أنه رغم كل التطورات كان مؤيداً للمحافظة على أدنى شكل ممكن من التعاون في إطار الفضاء السوفياتي السابق.
ومنذ ذلك الحين انصرف نزارباييف لتعزيز سلطاته الداخلية بعد إعلان «استقلال» بلاده. ولقد شهد الدستور الكازاخي عدة تعديلات خلال السنوات الثلاثين الماضية، وضعت كلها صلاحيات غير محدودة بيد الرئيس. وعام 2007، منحه تعديل دستوري الحق في الترشح للرئاسة لفترات غير محدودة، بينما نصّ أحدث تعديل دستوري (جرى تبنيه بغالبية ساحقة في البرلمان العام الماضي) على حق الرئيس في أن يبقى رئيساً لمجلس الأمن القومي مدى الحياة، حتى لو غادر مقعد الرئاسة.
هذا، ومع أن معارضي نزارباييف رفعوا، على مدى عقود، شعارات تنتقد «حكم الفرد» و«ملاحقة المعارضة والتضييق على الحريات»، لكن يُحسَب للرئيس المتنحي أنه جنّب بلاده كثيراً من الويلات التي شهدتها الجمهوريات السوفياتية الأخرى، ومنها الحروب الأهلية وبروز النزعات الانفصالية وتصاعد التهديدات الإرهابية. فلقد ظلت كازاخستان تتمتع بهدوء واسع واستقرار سياسي على مدى العقود الماضية، كما تمتعت باستقرار اقتصادي مكّنها من التحوّل إلى شريك أساسي لروسيا والصين ولاعب أساسي في المنظمات الإقليمية والدولية.
ترتيبات داخلية للخلافة
خاطب الرئيس المستقيل الكازاخيين بعبارة: «اتخذتُ قراراً بالتخلي عن صلاحياتي كرئيس للبلاد». لكنه شدد على عدم نيته مغادرة السلطة نهائياً، بقوله: «سأبقى أخدم بلادي حتى آخر يوم في حياتي». ولأنه مقتنع بأن «توالي الأجيال، وخصوصاً في السياسة، عملية طبيعية»، أضاف: «لقد فعلت أنا وجيلي كل ما بوسعنا من أجل البلاد. والعالم يتغير وتأتي أجيال تعمل لحل مشاكل معاصرة، فليحاولوا جعل البلاد أفضل».
أما عن البديل - الخلف فإن نزارباييف أراده من أقرب المقربين، وصفوف الرجال الذين رافقوه في كل مسيرته منذ تسلم السلطة للمرة الأولى رسمياً عام 1991. وهكذا، رشح رئيس مجلس الشيوخ السابق قاسم جومرت توكاييف لتولي مهام القائم بأعمال الرئيس حتى انتخاب رئيس جديد، العام المقبل.
وفي إشارة إلى أنه يضع كل ثقله السياسي وراء خليفته، قال نزارباييف لمواطنيه إن توكاييف «يعمل معي منذ اليوم الأول، وأعرفه جيداً. وهو نزيه ومسؤول وعمل بنشاط على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية، كما أنه أسهم في صياغة كل برامج عملنا ويمكنني أن أقول إنني أثق جداً بهذا الرجل لتسليمه مقاليد البلاد».
لذا لم يكن غريباً التصويت داخل البرلمان، في اليوم التالي مباشرة، لتوكاييف ليغدو الرئيس الثاني للبلاد منذ إعلان الاستقلال في عام 1991. وكان توكاييف شغل، خلال العقود الماضية، مناصب عدة، بينها وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء لاحقاً، ثم رئيس مجلس الشيوخ.
مع هذا، ما كان ممكناً أن تمر الترتيبات الجديدة من دون أن يبرز فيها اسم دريغا الابنة الكبرى لنزارباييف وأقرب مستشاريه، فهي انتُخبت بالإجماع في اليوم نفسه رئيسة لمجلس الشيوخ، لتقترب بذلك خطوة كبرى من رئاسة الدولة، إذ ينص الدستور على أن يشغل رئيس مجلس الشيوخ مقعد الرئاسة في حال غياب الرئيس.
في هذه الترتيبات يبدو أن نزارباييف اختار طريقة مضمونة أكثر من الالتفاف على الدستور. وفي حال لم يرغب بترشيح توكاييف في الانتخابات المقبلة سيكون الطريق ممهداً أمام ابنة «زعيم الأمة» لمواصلة إرثه السياسي الكبير في الجمهورية.
في الوقت ذاته، ضمن نزارباييف انتقالاً هادئاً لمقعد الرئاسة لا يضع ثغرات يمكن أن يستغلها البعض في مراكز القوى الاقتصادية أو السياسية في البلاد. أما المزاج الشعبي، فهو في غالبيته الساحقة، كما تشير استطلاعات الرأي، لصالح خيارات الرئيس. ومنذ انتخابه رئيساً للمرة الأولى في عام 1991 حاز نزارباييف على أصوات 99 في المائة من الناخبين، وحافظ بعد ذلك على هذه النسبة في الاستحقاقات الانتخابية الخمسة التالية التي خاضها، وانتُخب في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها البلاد عام 2015 بأصوات 98 في المائة.
أخيراً، هذا لا يعني أنه لا توجد معارضة في كازاخستان تشكو من تعسف السلطات. ففي حالات كثيرة ذكرت تقارير لمنظمات حقوقية تفاصيل عن ملاحقات وممارسات للتضييق على حرية الكلمة والعمل السياسي، لكن أداء المعارضة ظل هامشياً، وفشلت في حشد تأييد واسع لنشاطها في الشارع. وهو ما أظهرته التحركات المحدودة التي برزت في مواجهة قرار تغيير اسم العاصمة الكازاخية أخيراً لتغدو «نور سلطان»، تخليداً للرئيس المستقيل. إذ نزل مئات في مناطق مختلفة من البلاد إلى الشوارع اعتراضاً على القرار، لكن الأجهزة الأمنية نجحت بسهولة في سحق محاولتهم تحويل التحرك إلى حملات احتجاج واسعة، وانتهى الأمر باعتقال عشرات منهم.
بطاقة هوية
الاسم: نور سلطان نزارباييف (نظرباييف)
مكان وتاريخ الولادة: بلدة شيمولغان، يوم 6 يوليو (تموز) 1940.
الديانة: مسلم سنّي.
الدراسة: معهد كاراغاندا البوليتكنيكي - كازاخستان.
مسيرته السياسية: انضم إلى الحزب الشيوعي الكازاخستاني عام 1962، تدرّج بسرعة في صفوفه، باتجاه القمة.
وضعه العائلي: متزوج من سارة آلبيسقيزي، وأب لثلاث بنات، هن: داريغا ودينارا وعاليا.