داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

متى يتوقف نزيف العقول العراقية؟

اليوم، لن يستطيع أحد أن يعثر على دولة في العالم خالية من العقول العراقية المهاجرة. ولولا الحروب المتتالية، والاضطرابات والانقلابات العسكرية، والاحتلالان الأميركي والإيراني، خلال الستين عاماً الماضية، لتجاوز العراق أسوار منظومة العالم الثالث منذ الثمانينات من القرن الماضي. وهذا ليس من باب التمني أو الخيال العلمي، فالتاريخ الزاهي للحقبة الملكية في العراق يؤكد أن البلد الذي احتضن الخلافة العباسية في أوج الفتوحات الإسلامية كان مؤهلاً ليرتقي سلّم الحضارة العالمية من جديد، لكنه سرعان ما تدحرج على هذا السلّم بفعل عوامل كثيرة، أبرزها صراع الأحزاب والقوى السياسية والمذاهب، وأطماع بعض دول الجوار التي وصلت إلى حروب مدمرة مهّدت الطريق أمام الولايات المتحدة وإيران الملالي لاحتلال العراق والسيطرة على مقدراته، إلى أن انهار كل شيء، بدءاً من التعليم والصحة والإسكان والصناعة والزراعة والري والبنى التحتية، وصولاً إلى تنامي الميليشيات الفوضوية المسلحة، كـ«داعش» والتشكيلات المشابهة المدعومة من «فيلق القدس» الإيراني. وليست هناك مبالغة إذا قال أحد إن «فيلق القدس» هو الذي يحكم العراق بعد سقوط النظام السابق. نحن أهل العراق، ومن حقنا أن نجاهر بهذه الحقيقة التي تحاول العلاقات الدبلوماسية والتوازن الإعلامي طمسها أو تجاهلها.
تقول إحدى الحكم العربية الشائعة: «لا خير في أمة لا تحترم علماءها»، لكننا يجب أن نعترف بأن أكثرية دولنا العربية «طاردة» للعقول والكفاءات. وأستدرك لأقول إن معظم دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تعاني من المشكلة نفسها التي تتفاقم عاماً تلو آخر. نأخذ العراق مثلاً: هناك ثلاثة أجيال من العقول المهاجرة. بدأ الجيل الأول مع سقوط النظام الملكي في عام 1958، وقيام النظام الجمهوري؛ ومعظم تلك الموجة خبرات سياسية واقتصادية. تلاه الجيل الثاني في الفترة من عام 1963 إلى 2003، التي شهدت تحولات سياسية واقتصادية مهمة، وحروباً وحصاراً قاسياً؛ وشملت عناوين سياسية واقتصادية وعلمية وأدبية وفنية. ومعظم المهاجرين من 1958 إلى 2003 استوطنوا دولاً أخرى، أغلبيتها أجنبية، وحصلوا على جنسيات الدول التي لجأوا إليها، وتزوجوا وتكاثروا، ومعظم أبنائهم لم يزوروا العراق بتاتاً، ولا يجيدون اللغة العربية.
أما الطامة الكبرى فهي العقول التي هاجرت بعد سقوط النظام السابق في 2003، بفعل الاحتلال الأميركي الكامل، ثم تسييس الدين وانفجار الاحتقان الطائفي، واغتيال الكفاءات والعقول، كالأطباء والمهندسين والعسكريين والصحافيين والنشطاء السياسيين من قبل فرق الموت، وإرغام كثير من أبناء الأقليات، كالصابئة المندائيين والمسيحيين والأرمن والإيزيديين، على الفرار، خصوصاً بعد ظهور «داعش»، بجوازات سفر مزيفة أو عبر جبال الشمال العراقي.
ولا يحتاج المحلل إلى كثير من الشواهد لإثبات أن النظام الحالي في العراق هو الأكثر «طرداً» للعقول، و«ترحيباً» بالجهلة الذين تبوأوا مراكز سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وجامعية بشهادات معظمها من دكاكين التزوير في بغداد، وبأغطية طائفية مفضوحة.
وأمامي لوحة «إنفوغرافيك» حديثة أنجزتها وكالة «يقين» العراقية للأنباء، تفيد بأنه تم في العراق منذ عام 2003 اغتيال أكثر من 530 عالماً وأستاذاً وإعلامياً، بالإضافة إلى 3 آلاف طبيب، في معظم المحافظات (ليس لأسباب سياسية فقط، وإنما لموت المرضى بين أيديهم)! والذين خشوا على أرواحهم من هذه الكفاءات العليا اضطروا إلى الهجرة، وتقدر أعدادهم بعشرات الألوف.
وليس لدى الحكومة العراقية ما تخفيه في هذه «الكارثة»، فالرأي العام في الداخل شاهد حي على عمليات الاغتيالات والتصفيات التي تجري نهاراً جهاراً أمام أعين الناس والكاميرات وسيارات الشرطة. وأنا أود أن أركز هنا على شريحة الأطباء لأهميتهم الإنسانية في أي مجتمع. وقد حظي القطاع الصحي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1922 بسمعة عربية وعالمية ممتازة. وقد لا يعرف كثيرون أن وزير الصحة البريطاني بين عامي 2007 و2009 هو البروفسور آرا وارتكيس، العراقي الأرمني الأصل، وهو من خريجي «كلية بغداد» الثانوية الأميركية التي أسسها وأدارها الآباء اليسوعيون الأميركيون منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وتحولت اليوم، بعد أن تم «تشييعها»، إلى تدريس طلبتها طقوس عاشوراء ووصايا الخميني!
وبدلاً من أن تحاول الحكومة الطائفية الحالية في بغداد استعادة هذه الشريحة العلمية المتفوقة من الخارج، وحمايتها من فرق الموت والغدر، اتفقت وزارة الصحة العراقية مع أطباء وممرضات من الهند وإيران والفلبين وباكستان للعمل في العراق، ومعالجة المرضى العراقيين! وبينما تبدو المستشفيات العراقية اليوم شبه فارغة، ولم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للمرضى، بسبب النقص المستمر في عدد الأطباء والأجهزة والأدوية، تشير تقديرات عراقية إلى أن الآلاف من الأطباء العراقيين يمارسون اليوم مهنتهم في مختلف الاختصاصات الطبية في إنجلترا والولايات المتحدة وأستراليا والدول الإسكندنافية. وتكشف هذه التقديرات عن أن أحد مستشفيات السويد يعمل فيه 48 طبيباً عراقياً من أصل 150 طبيباً. وتشير دراسة حديثة إلى أن مجموع الأطباء العراقيين في بريطانيا هو 5 آلاف طبيب، وأن 3 آلاف و800 طبيب منهم يقيمون في لندن فقط.
لقد تحول العراق بين ليلة وضحاها، في ظل نظام طائفي يرتدي عمامة الدين، من دولة مؤسسات ومراكز بحوث وجامعات عملاقة إلى دولة ميليشيات وتكتلات وأحزاب لها بداية وليست لها نهاية، ومن شعبٍ واعٍ راقٍ محترمٍ إلى شعبٍ يائسٍ نازحٍ منكوبٍ، ومن دولة علوم وعلماء وتقدم ورقي ونهضة تنموية وصناعية وعمرانية وصحية، في النظامين الملكي والجمهوري، إلى دولة تخلف وفقر وشعوذة، يحكمها ملالي إيران بفتاواهم الطائفية.
ومنذ احتلال العراق، دخلت المجتمع العراقي تقاليد وأعراف جديدة لم يعهدها من قبل، وعلى رأسها «دفع الطبيب ديّة المريض»، إذا أدت العملية إلى وفاته! أو إذا قدر الله أن يفارقَ الحياة مُصاباً بطلق ناري متأثراً بجراحه ولم يفلح الطبيب في إنقاذه! كما يتعرّض عشرات الأطباء العراقيين إلى الضرب والإهانة من قبل المواطنين أو الأجهزة الأمنية أو حمايات المسؤولين، الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في الهجرة إلى بلدان لجوء تضمن لهم كراماتهم وحقوقهم في العيش الآمن. وتشير تقارير عراقية إلى أن كثيراً من الأسباب الأخرى تدفع الأطباء العراقيين إلى الهجرة الاختيارية، منها الفساد الإداري، وتفشّي الرشوة والمحسوبية، حتى في الجوانب الطبية الخطيرة، إذ يمكن تقديم أفضل الخدمات للمريض إذا كان منتمياً لهذه الجهة السياسية أو تلك، بينما يمكن لمريض مصاب بالعلة ذاتها أن يفارق الحياة لأنه لا ينتمي إلى هذه الطائفة أو ذاك الحزب الحاكم.
في أحد لقاءات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع الشباب المصريين مؤخراً، قال رداً على مداخلة لأحد الشباب بشأن العراق: «أنت لم ترَ العراق الذي رأيتُه. أنا رأيت العراق دولة يُشار لها بالبنان؛ دولة قوية قادرة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وذات تأثير كبير في محيطها. ولكن... ولكن». وعَبّرت هاتان الكلمتان الأخيرتان عن كثير من زفرات الأسى والأسف. وختم السيسي ردّه قائلاً: «بغداد... كان المغنون ينشدون لها: بغداااد»، وكاد يردد سيادته لحن أُنشودة «بغداد»، لكوكب الشرق أم كلثوم.