د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

هوامش على عملية «طوفان الكرامة»

على مدى أربع سنوات، ومنذ تشكّل حكومة الوفاق الوطني المدعومة دولياً، لم تعرف طرابلس معنى الانتماء إلى وطن كبير، رغم كونها العاصمة المشهودة؛ فالانقسام بين الشرق والغرب أصبح سمةً رئيسيةً لم تفلح معها كل الجهود الأممية، منذ المبعوث الأممي برناردينو ليون الدبلوماسي الإسباني، ثم أستاذ العلاقات الدولية اللبناني غسان سلامة الحالي. وهناك بالطبع أسباب موضوعية وأخرى شخصية يمكن الإشارة إليها وراء هذه الحالة من الجمود السياسي، وفشل المبادرات التي سعت إليها بعض الدول لجمع الرجلين القويين اللذين يقودان المشهد الليبي سياسياً وعسكرياً، أي فايز السراج وخليفة حفتر، بهدف تسوية المشكلات المعلقة التي تحول دون التوصل لتسوية سياسية شاملة. وفى كل مرة كانت تُسرد العهود والطموحات والنيات الطيبة، ولكنها لا تقدِّم ولا تؤخّر على صعيد الواقع.
مع انطلاق عملية «طوفان الكرامة» التي بدأتها قوات الجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، 4 أبريل (نيسان) الحالي، بغية تحرير طرابلس من «الجماعات الإرهابية»، حسب بيانات قيادة الجيش الليبي، وإعادة الاستقرار والأمان إلى أهلها، تتفجر عدة أسئلة يصعب الإجابة عنها ما دامت العمليات العسكرية لم تنتهِ بعد، وقد تساعد بعض الملاحظات، أو لنقل: بعض الهوامش، في بيان الذي يجري والذي يمكن أن ينتج عنه. وأول هذه الهوامش يتعلق بالهدف والتوقيت لهذه العملية، وهل صحيح أن حفتر يريد أن يدخل طرابلس على حصان أبيض، كما يقول معارضوه، ليفرض نفسه قائداً أو رئيساً عليها؟
لا خلاف على أن الانتصار في المعركة هو هدف أي قائد عسكري، وتحرير طرابلس من القوى والكيانات شبه العسكرية وغير الخاضعة للقانون أو الدستور هو هدف معلَن منذ فترة طويلة وليس مستحدثاً، أما أن يصبح حفتر رئيساً لليبيا بالقوة فليست مسألة سهلة وليس قراراً أحادياً، لأنه يخضع ببساطة لتوازنات دولية قبل أن يكون مجرد طموح شخصي أو نتيجة معركة عسكرية، ووفقاً لما يُعرَف عن الرجل من حذر وانضباط عسكري وقراءة شاملة لما يجري داخلياً وخارجياً وعلاقات دولية، فمن الممكن استبعاد هذا الهدف نسبياً إلى حين تنجح الأمم المتحدة في جهودها لوضع آلية سياسية (من بينها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية) قد تسمح بمنافسة حرة وشفافة قد يفوز فيها الرجل بالمنصب الأعلى للبلاد، نتيجة اختيار الليبيين الحر أنفسهم وليس أي شيء آخر. وأعتقد أن هذا التصور أمامه كثير من الصعوبات حالياً.
الهامش الثاني يتعلق بتوقيت إطلاق العملية، قبل أقل من أسبوعين من عقد المؤتمر الوطني الجامع الذي اقترحه غسان سلامة، بعد فشل إجراء الانتخابات التي اتفق عليها في مايو (أيار) الماضي في «لقاء باريس»، وتُعد فكرة المؤتمر الجامع براقة على الصعيد النظري، لكنها تواجه العديد من الانتقادات والقيود من الناحية العملية، لأن هؤلاء المجتمعين من كل فئات المجتمع الليبي لا يملكون سوى قوة معنوية، حين التأكيد على حل سياسي شامل، وليس بمقدورهم فرض آليات تنفيذية، وهى التي تظل بيد المؤسسات المعترف بها دولياً؛ سواء برلمان الشرق أو حكومة الوفاق في طرابلس، وكلاهما غير متعاون. وبالطبع، فإن عملية «طوفان الكرامة» ستضيف قيوداً أخرى على هذا المؤتمر، في حال أصرَّت بعثة الأمم المتحدة على عقده في موعده المعلن، منتصف الشهر الحالي، ومهما كانت مخرجاته، فإنها ستخضع لتوازن القوى الجديد الذي سينتج عن «طوفان الكرامة».
الهامش الثالث يتعلق بمَن يحارب مَن، في طرابلس ومحيطها، وعلاقة ذلك بأحد أهم الأهداف التي طالب بها كثيراً المبعوث الأممي غسان سلامة، وهو توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية لتصبح مؤسسات وطنية وليست مجرد كيانات مسلحة. والثابت نظرياً وعملياً أن رؤية حفتر تقوم على ضرورة أن تكون هناك مؤسسة عسكرية واحدة وموحّدة، ولا يوازيها أي كيان عسكري آخر بعيد عن سلطة الدولة والقانون، وهو ما يتناقض مع ما تعايشت معه حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج من تعدد الكيانات العسكرية، وتغوّل كل منها على مناطق معينة سواء في العاصمة أو حولها أو في مدن، مثل مصراتة وغيرها، بأهلها ومؤسساتها. ولعل أسماء تلك الكيانات يبرِز أهدافها وطبيعتها الحقيقية، مثل كتائب سرايا ثوار الزاوية، ومحور أبو سليم، وميليشيا باب تاجوراء، وقوات حماية طرابلس وثوار مصراتة والمجلس العسكري للكتائب وغيرها، وبما يعني أننا أمام وحدات شبه عسكرية في أفضل الأحوال لا رابط ولا جامع بينها سوى أنها تمتلك سلاحاً، وتفرض سطوتها على بقعة جغرافية معينة.
وهكذا فتعدد الكيانات العسكرية في الغرب الليبي، ومهما تشكلت تحالفات بين بعضها وأعطت لنفسها أسماء، مثل «قيادة المنطقة الغربية»، أو «قوات حماية العاصمة»، فتظل ميليشيات عسكرية، وليست الجيوش بانضباطها ودورها الوطني العام، فضلاً عن أن بعض هذه الكيانات العسكرية ذات انتماءات للإسلام السياسي، وتحصل على دعم كبير مالياً وتسليحياً من دولتي قطر وتركيا. وهي أيضاً كيانات متنافسة، وكثيراً ما تعاركت فيما بينها، وحدث ذلك في طرابلس مرات عدة وفى غيرها. وربما الجامع الوحيد بينها هو رغبة الانفراد بالغرب الليبي، وتوحُّد بعضها شكلياً تحت قيادة فايز السراج، ورفض أي خطة أممية أو غير أممية لتوحيدها في مؤسسة أمنية أو عسكرية تتبع التقاليد المتبعة عالمياً، ولذا تظل حركة تلك الكيانات مرهونة برغبات مؤسسيها والعشائر التي تنتمي إليها، والممولين لها من الداخل أو من الخارج.
ومثل هذه الأمور ليست سرّاً، ومبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة أشار إليها في العديد من إحاطاته التي قدمها إلى مجلس الأمن حول تطورات عمل البعثة الأممية في ليبيا. وتُعدّ الإحاطة الثامنة في يناير (كانون الثاني) الماضي أشهر تلك الإحاطات التي تحدّث فيها سلامة تفصيلاً عن انعدام الأمن في طرابلس، وسطوة هذه الكيانات العسكرية على حياة الطرابلسيين، وتهديد أمنهم، واستيلائها على المال العام، وضعف حكومة الوفاق في السيطرة عليهم. وفي الإحاطة أيضاً إشارات إلى انتهاكات في الجنوب الليبي، حين اتجه الجيش الوطني إلى هناك لضبط الوضع الأمني.
وفى المقابل، يبدو الجيش الوطني الليبي مختلفاً من حيث التنظيم والانضباط العسكري والولاء لمبدأ الدولة الليبية، وعقيدته تخص الوطن ككل، وليس منطقة معينة، وله قناعة واضحة في مواجهة «الميليشيات» الليبية أو غير الليبية من قبيل المجموعات التابعة لـ«داعش» أو «القاعدة» أو جماعة «الإخوان». ودوره في تحرير الشرق الليبي ثم الجنوب من «داعش» و«القاعدة» في بني غازي ودرنة، وأخيراً سبها، ليس محل خلاف.
ولا خلاف على أن الإيمان بدور من أجل الوطن ككل يختلف تماماً عن الإيمان بالقيام بدور من قناعات آيديولوجية تخترق حدود الوطن ذاته، أو من أجل مصالح جهوية أو عشائرية. وإذا وضعنا هذه البديهية في حسبان تحليل دوافع كل من قوات الجيش الوطني الليبي والكيانات العسكرية المنتشرة في الغرب، فسوف ندرك أن العمل العسكري للسيطرة التامة على العاصمة سوف يأخذ وقتاً، وسوف يتبعه تضحيات بشرية كبيرة، اللهم إلا إذا تغيرت ولاءات بعض تلك الكيانات العسكرية، إما حياداً أو انحيازاً للجيش الوطني، وبما يسهّل نسبياً عملية السيطرة على العاصمة، لا سيما أن الأهالي أنفسهم يتطلعون إلى الأمن والأمان، كما هو حادث في الشرق.