سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

غمامات تتجمع في سماء تونس الخضراء

يمكن القول دون كثير من التجاوز، إن اليوم الأول من هذا الأسبوع، الذي وافق السادس من أبريل (نيسان)، هو خطوة البداية في سباق الرئاسة في تونس، ففيه خرج الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، ليعلن من مدينة المنستير إشارة البدء في سباق ممتد، سوف تكون خاتمته في السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؛ لأن هذا هو الموعد المحدد لإجراء انتخابات الرئاسة!
وليس خافياً على أحد، أن المنستير ذات رمزية عالية لدى كل تونسي تقريباً؛ لأنها مسقط رأس الحبيب بورقيبة، بكل ما يحمله اسمه من المعاني الكبيرة في تونس، ولأنها لا تزال دون بقية المدن هناك، تحتضن متحفاً خاصاً يحمل اسم الزعيم الراحل، ويضم أغراضه الشخصية الشهيرة، بدءاً من بدلته بيضاء اللون، ومروراً بقبعته الشهيرة، وانتهاءً بعصاه، ثم كل ما عدا ذلك من أغراض!
وليس خافياً على أحد أيضاً، أن يوسف الشاهد، رئيس الوزراء التونسي، قد اختارها هي دون سواها قبل أسابيع من اليوم، ليعلن منها تأسيس حزب جديد يحمل هذا الاسم: «تحيا تونس»! ورغم أن الشاهد ليس هو رئيس هذا الحزب الوليد إلى الآن، ورغم أن رئيسه لا يزال هو سليم العزابي، الوزير السابق، فإن كل متابع للحياة السياسية التونسية، وكل مدقق في الوتيرة التي تجري عليها منذ فترة، يدرك أن الشاهد هو رأس الحزب الجديد، وهو عقله، وهو واجهته أمام الناخبين وقت اللزوم، وهو كذلك رافعته التي ستتحرك نحو سباق الرئاسة عند الضرورة!
وليس خافياً على أحد للمرة الثالثة، أن الشاهد كان عضواً في حزب «نداء تونس»، الذي أطلقه السبسي في منتصف 2012، وفاز من خلاله في انتخابات الرئاسة والبرلمان معاً، عام 2014، ولكن خلافات طرأت داخل الحزب على مدى شهور مضت، أدت إلى خروج رئيس الوزراء منه، وبالأدق أدت إلى إخراجه، وتجميد عضويته، وكان ذلك راجعاً إلى خلافات بينه وبين حافظ السبسي، نجل الرئيس ودينامو الحزب، مرة، ثم كان راجعاً إلى طموح سياسي للشاهد يظهر واضحاً ولا يزال، في كل خطوة يخطوها مرة أخرى!
ولم يتوقف الأمر عند حد إخراجه من «نداء تونس»، وتجميد عضويته، ولكن الأمر وصل إلى حد الإعلان عن إحالته إلى التحقيق أمام لائحة الحزب الداخلية، فقرر هو، فيما بدا، الانصراف إلى تأسيس حزبه الجديد، ولسان حاله يقول: بيدي، لا بيد حافظ!
ومن حجم الزخم الذي صاحب خروج «تحيا تونس» إلى النور، أحس مراقبون كثيرون للمشهد في البلد، بأن هذا الحزب، رغم حداثة عهده بالعمل السياسي، ورغم تجربته المحدودة في واقع الحياة السياسية، إذا ما قورن مثلاً بحزب «النهضة» الإسلامي، أو بحزب «نداء تونس»، أو بأحزاب اليسار ذات الوزن، سيكون بمثابة الورقة الرابحة التي تستحوذ على أوراق السباق، وسيكون بمثابة الحصان الذي إذا نزل إلى المضمار، وضع عينيه على نقطة الفوز ليبلغها قبل غيره من الخيل التي تسابقه لتسبقه!
وربما لهذا كله، اختار الرئيس السبسي مدينة المنستير، ليعقد فيها مؤتمر حزبه الانتخابي الأول على مدى أربعة أيام، ثم ليعلن منها ما لم يكن كثيرون يتوقعونه منه في هذه اللحظة، من لحظات ترتيب الأوراق على مستوى كل حزب، يريد أن يكون له موطئ قدم في «التراك» الممتد من هنا إلى نوفمبر من هذا العام!
لقد أعلن الرجل أنه لن يرشح نفسه في انتخابات الرئاسة، مكتفياً بسنوات خمس سيكون قد قضاها في قصر قرطاج عند نهاية هذه السنة، وكانت هذه الخطوة من جانبه مفاجأة بكل معيار؛ لأن كل تلميحاته فيما سبق له من أحاديث وتصريحات صحافية، كانت تشير إلى رغبة لديه في إعادة طرح اسمه من جديد، لفترة رئاسية ثانية، وقد كان حديثه إلى قناة «الحدث» العربية، قبل نحو أسبوعين، مؤشراً على تلك الرغبة، ولا أحد يعرف ماذا جرى خلال أيام قليلة انقضت، بما جعله يستقر على قرار مختلف، ثم يخرج فيعلنه على الناس!
وهكذا، بدا مضمار السباق مفتوحاً أمام جواد الرهان، الذي يرى في نفسه القدرة على الجري إلى آخره، والذي يرى في الوقت ذاته أن أصوات الناخبين سوف تسعفه ولن تخذله، وأن عنده من الأوراق ما يستطيع أن يطرحها فيكسب بها، ويحصد كثيراً من الأصوات!
وكان الرئيس السبسي يحمل في جيبه مفاجأة أخرى بدت منذ لحظتها الأولى، أشد أهمية من مفاجأته الأولى، وكان ذلك بادياً في لحظتين اثنتين من لحظات حديثه أمام عشرة آلاف حضروا المؤتمر، أما الأولى فكانت عندما دعا جموع الحاضرين إلى إلغاء تجميد عضوية الشاهد في حزب «النداء»، فوافقوا بالإجماع، وكان هذا أمراً لافتاً أمام كل ذي عين، وكان أيضاً لا يخلو من معنى، وأما الثانية فكانت حين نوّه برئيس الوزراء، ثم قال إنه، أي الرئيس، سيدعم أحد المرشحين في الانتخابات، دون أن يسمي المرشح الذي يقصده بالطبع، وإن كان سياق الكلام يجعل الشاهد وكأنه هو هذا المرشح المقصود!
وليس في المشهد التونسي ما يشير إلى سر هذا التحول من جانب الباجي تجاه الشاهد، فإلى أسابيع معدودة مضت، كانت العلاقة بينهما تمتلئ بكثير من التوتر، وفي آخر تعديل جرى في الحكومة اتهم الرئيس رئيس وزرائه، بأنه مرر أسماء وزراء في التعديل، لم توافق عليها الرئاسة، ولم تكن على علم مسبق بها قبل إعلانها في الإعلام، وقال الرئيس وقتها ما معناه أنه لا يُقر ما حدث، ولا يرضاه، وقد كان إقدام الشاهد بعدها على تأسيس الحزب الجديد، علامة على أنه لا يجد له مستقبلاً في «نداء تونس»!
فماذا جرى في محيط الرئيس؟ وماذا وراء هذا التحول المفاجئ، الذي جعل رئيس الوزراء يتحول من رجل مُحال إلى التحقيق داخل «نداء تونس»، إلى رجل عادت إليه عضويته المُجمدة، وصار أقرب إلى أن يكون مرشحاً رئاسياً للحزب في السباق القادم، ويكاد يكون صاحب تزكية من الرئيس؟!
سوف نعرف، وسوف نعرف كذلك كيف سيتصرف الشاهد في وعده المعلن الذي أعطاه لـ«النهضة»، بأن يختار بين بقائه في رئاسة الحكومة، وبين ترشحه في سباق القصر، الذي سينقله إذا فاز، من قصر القصبة حيث هو الآن، إلى قصر قرطاج حيث كرسي الرئيس. فما يجري أمام أعيننا، وفي القلب منه ما أعلنه الرئيس السبسي في المنستير، يبدو وكأنه غمامات تتجمع في سماء تونس لتمطر مرة واحدة!