الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

بين حكم العسكر والحرب الأهلية

تجربتان عشناهما في الأيام القليلة الماضية، تظهران طبيعة الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في معظم بلداننا. هذه المؤسسة التي تنظر إليها شعوبنا على أنها ضمانة للاستقرار الأمني، ولا تستطيع الاستغناء عنها عندما تحتاج إلى مظلة للانتقال السياسي لتحميها من بطش الحاكم المغادر، هي المؤسسة ذاتها التي تطالبها الشعوب بالنزاهة والترفع عن السلطة عندما تؤمّن عملية الانتقال تلك، وتريد منها إخلاء الساحة لما يتعارف عليه المحتجون بالحكم المدني... من دون أن يعرف أحد من أين سيأتي هذا الحكم، في بلدان غابت فيها فرص التناوب الطبيعي السلمي على السلطة، وصارت الصراعات القائمة، من طائفية وقبلية وعشائرية، وصفة جاهزة للحرب الأهلية.
في الجزائر والسودان خرجت جماهير شعبية إلى الشارع مطالبة بقطع الطريق على «العهدة الخامسة» للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وبسقوط الرئيس عمر البشير. في الحالتين لم يكن ممكناً لمطالب المتظاهرين أن تتحقق لولا تدخل الجيش ووقوفه إلى جانبهم. في الجزائر طالب رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح، الرئيس بوتفليقة، بالتنحي بسبب عدم أهليته لحكم البلاد، كما جاء في بيان رئيس الأركان، الذي وصف المجموعة المحيطة ببوتفليقة بـ«العصابة»، في تجاوب واضح مع الوصف الذي كانت أكثرية الجزائريين تطلقه على هذه الجماعة، وهو ما فهم منه الجزائريون المحتجون أنه دعم لمواقفهم ومطالبهم.
أما في السودان، فقد كان واضحاً وقوف الجيش إلى جانب المحتجين الذين اعتصموا أمام مبنى القيادة العامة مطالبين بتنحي عمر البشير. ورحب «تجمع المهنيين» وسائر القوى التي انضوت تحت لواء مجموعة أطلقت على نفسها اسم «قوى الحرية والتغيير» بما اعتبروه انحياز القوات المسلحة للشعب، ومنعها القوى التي بقيت موالية للبشير من التعرض للمحتجين.
تفاءل المحتجون خيراً بسلوك الجيش. في الجزائر تخلى بوتفليقة عن السلطة. وفي السودان أعلنت قيادة الجيش انتهاء حكم عمر البشير. ومع تحقق المطلبين بدأت تظهر مشكلة جديدة بين جيشي البلدين والمتظاهرين تتعلق بمرحلة ما بعد التغيير. في الجزائر يطالب رئيس الأركان باحترام الدستور ومنح الرئيس الانتقالي، وهو رئيس مجلس الأمة، بحسب الدستور، عبد القادر بن صالح، فرصة الحكم لثلاثة أشهر، والتمهيد لانتخابات رئاسية لا يحق له أن يخوضها. كما دعا إلى عدم رفع الشعارات التعجيزية التي يمكن أن تؤدي إلى الفراغ الدستوري وهدم مؤسسات الدولة، فيما ردت قوى المعارضة برفض رئاسة بن صالح باعتباره من بقايا حكم بوتفليقة.
وفي الخرطوم، أعلن وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف تعطيل الدستور وقيام مجلس عسكري يحكم البلاد لمدة عامين. وهنا أيضاً ردت المعارضة باستمرار الاحتجاجات، متهمة الجيش بـ«سرقة مطالب الثورة»، ومعتبرة أن حكم بن عوف ومجلسه العسكري هو استمرار لحكم البشير، باعتبار أنه كان نائباً له ووزيراً للدفاع في عهده. وهذا على الرغم من إعلان المجلس العسكري أنه «غير طامع في السلطة»، وأن الحكومة الجديدة ستكون حكومة مدنية.
في الخرطوم والجزائر، لعب الجيش دور الضامن لعملية الانتقال السياسي السلمي للسلطة. لم يتصرف على أنه جيش بوتفليقة أو جيش عمر البشير. لتقدير أهمية هذا الأمر، تكفي المقارنة مع ما فعله جيش بشار الأسد بالسوريين. مع أن مطالبهم لم تتجاوز مع انطلاق الثورة السورية ما تحقق على يد الجيش في الخرطوم والجزائر، أي إبعاد رأس النظام، والمجيء بشخصية أخرى، ولو كانت من الحزب الحاكم نفسه، ومن قيادات الجيش التي تحيط ببشار الأسد.
أهمية هذه المقارنة تفرض الواقعية في التعاطي مع ظروف الاحتجاجات العربية، خصوصاً أن البديل الذي يهدد المجتمعات والمؤسسات حاضر أمامنا، نتيجة تجربة «الربيع العربي» في سوريا وليبيا واليمن، وما انتهت إليه الأمور في البلدان الثلاثة من انهيار اقتصادي وتفكك سياسي، بسبب غلبة الولاءات الطائفية والقبلية والمصلحية على الولاء الوطني.
تفرض المقارنة أيضاً الإفادة من دروس الماضي. فالجزائر عانت من الصراع الدامي خلال «العشرية السوداء»، التي كان الجيش فيها طرفاً في مواجهة الإسلاميين، الذين كان مشروعهم هو الانقضاض على السلطة، وإنهاء مدنية الدولة وعملية التداول السياسي. ومن هنا أهمية الدور الحالي للجيش كضامن لعملية التداول هذه، باعتباره القوة الوحيدة في الجزائر القادرة على منعها من الانزلاق إلى ما يذكّر بتلك الفترة الدامية.
وفي السودان، لا حاجة للتذكير بتاريخ الانقلابات العسكرية. رئيسان هما جعفر النميري وعمر البشير ورئيس للحكومة هو الصادق المهدي ذهبوا جميعاً بهذه الطريقة، ما يجب أن يدفع المحتجين اليوم إلى التوقف عند جدية المطلب الداعي إلى «تسليم السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية»، كما طالب حزب الأمة بعد إعلان المجلس العسكري إنهاء حكم البشير؛ لأن حكومة كهذه إذا وجدت ستعكس في الظرف الحالي الانقسام العميق القائم بين الأطراف السودانية، وستؤدي إلى مضاعفة حالة عدم الاستقرار، وطبعاً لن تستطيع أن تحكم إلا إذا أمّن الجيش لها فرصة الحكم، وهذا غير وارد حالياً.
ليس الجيش حلاً مثالياً للإشراف على عملية انتقال السلطة، أو حتى لتوليها. لكن البديل المتاح في معظم أنظمتنا، وفي مجتمعاتنا، غير متوافر بطريقة تتيح عملية الانتقال السياسي بسلاسة بالطريقة التي تحصل في الأنظمة الغربية. لا العمل الحزبي عندنا يوفر ذلك ولا الثقافة الديمقراطية. لذلك يصبح البديل، أي الحكم المدني، مرادفاً في معظم الحالات للفوضى التي يمكن أن تنتهي على طريق الحرب الأهلية.
واحد من البلدان العربية الذي يزعم ثقافة وتجربة ديمقراطية هو لبنان، الذي كان القادة العسكريون، وإنْ بلباس مدني، مخرجه الوحيد من أزماته السياسية وحروبه الأهلية. في نهاية كل ولاية رئاسية يكون مأزق انتقال السلطة جاهزاً ليأتي قائد الجيش لملء الفراغ. هكذا كان الحال مع الرئيس فؤاد شهاب بعد الحرب الأهلية المصغرة سنة 1958، ثم مع العماد ميشال عون الذي عينه الرئيس أمين الجميل رئيساً لحكومة عسكرية في نهاية عهده، ومع القائدين السابقين للجيش إميل لحود وميشال سليمان. وعندما عجز مجلس النواب في نهاية عهد سليمان عن اختيار رئيس، واستمر الفراغ سنتين ونصف السنة، وقع الخيار في النهاية على الرئيس الحالي ميشال عون.
إذا كان من الحكمة الإفادة من تجارب الماضي، ففي بلداننا العربية الكثير من التجارب والسوابق المأساوية لمن يريد أن يتعلم.