توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

عقل الأولين وعقل الآخرين

الذين يعارضون اعتماد العقل مصدراً للتشريع والمعرفة الدينية، يقيمون موقفهم على منظومة استدلال، يرونها مناسبة لحمل تلك الدعوى.
لكنَّ التأمل في هذه الأدلة يكشف عن نقاط ضعف أساسية؛ أبرزها في ظني هو أن الإطار الذي يدرس فيه الموضوع، ليس محدداً على نحو دقيق. ولهذا دخلت فيه قضايا واستدلالات لا علاقة لها به، كما اختلطت في سياقه العبارات الوصفية والتفسيرية، بتلك التي تنطوي على أحكام وقيم. بل وجرى استعمال هذه في موقع تلك وبالعكس.
من ذلك مثلاً القول الشائع، بأن إبليس تحول من مَلَك إلى شيطان رجيم، حين اتبع عقله فعصى أمر ربه. ونعلم أن هذا ليس دليلاً في هذا الموضع، واستعماله فيه نوع من الحشو والقصص لا العلم.
ولعلَّ الفوضى المهيمنة على النقاش سببها اتخاذه صفة المساجلة بين خصمين، لا يريد أحدهما معرفة حجج الآخر، إلا لغرض وحيد هو تثبيت موقفه. ولهذا أيضاً لا أرى إمكانية لتوصلهما إلى رؤية موحدة. فكلاهما يعبر عن موقف فكري مرتبط بدائرة مصالح اجتماعية، على النحو الذي سمَّاه توماس كون بـ«البرادايم»، أو ما نسميه أحياناً النسق. ذلك الموقف إذن امتداد لمنظومة متبنيات ثقافية وانحياز اجتماعي، لن تنفك أجزاؤه عن بعضها بعضاً، بمجرد النقاش.
في زاوية ثانية، نلاحظ أن النقاش حول دور العقل، يعاني - كمعظم النقاشات المماثلة في الفكر الإسلامي - من ضعف واضح في تحديد المفاهيم المحورية، التي يتوجب الاتفاق على تعريفها كي يكون النقاش متصلاً. مبرر هذه الحاجة هو أن بعض المفاهيم، مثل «العقل» و«النص» و«الشريعة» و«الجماعة» إلخ... تحولت بشكل عميق، لا سيما خلال القرن العشرين، عن التركيب الذي كان معهوداً حين بدأ هذا الجدل، مع اشتهار منهج الإمام أبو حنيفة في الاجتهاد، قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.
لا بأس بالتذكير هنا بأن مفهوم «العقل» الذي عرفه الأسلاف، كان أقرب للمفهوم الذي اشتهر عند فلاسفة اليونان، أي اعتباره أداة مستقلة قادرة بمفردها على إدراك الكمالات ومواضع الجمال، وبالتالي تمييز الحقائق والفضائل والحكم على موضوعاتها.
أما «العقل» الذي نناقشه اليوم، فهو مختلف في تعريفه وفي تقييم عمله. ولعل أقرب المفاهيم القديمة إليه، هو ما كان يطلق عليه «بناء العقلاء»، الذي تشبه صورته الأصلية مفهوم العرف العام.
جدير بالذكر أن الإمام الغزالي كان قد أشار في ذيل كتاب العلم من «إحياء علوم الدين» إلى أن الخلاف على المفاهيم وحدودها، كان واسعاً حتى في زمنه (450 - 505 هـ)، وحسب تعبيره، فإن أكثر «التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ».
كذلك الحال في مفهوم «النص»، الذي كان ينظر إليه في السابق كتعبير منفرد ونهائي عن الحقيقة، بينما ينظر إليه اليوم كوعاء للحقيقة، وفي بعض الحالات قيداً عليها. ولذا نحتاج أحياناً لتجاوزه، من أجل تحرير الحقيقة أو الرسالة المنطوية فيه، من قيود التاريخ وانعكاسات الظرف عليه وعلى فهمه.
زبدة القول: إن العقل الذي يدور حوله الجدل الذي استعرضناه في الأسبوعين الماضيين، ليس واحداً أو محدداً. وإن ما يقال عنه وعن دوره، تأييداً أو رفضاً، قد يتعلق بعقل متخيل، تتعدد صوره ومفهوماته بقدر ما يتعدد المشاركون في الجدل حوله.
ولذا فلعلَّ الأجدى أن يبدأ الناس بتحديد مفهوم العقل الذي يعنونه.