استفاق الباريسيون صباح أمس، وفي أفواههم طعم الرماد وفي أنوفهم رائحة الدخان المنبعث من الحريق الضخم الذي التهم جزءاً واسعاً من كاتدرائية نوتردام. ومنذ الصباح الباكر توافدوا بالمئات، كباراً وصغاراً، باريسيين وسياحاً، ليروا بعيونهم هول الكارثة التي حلت بأشهر معلم ديني وأثري تحتضنه العاصمة، بل إنه الأشهر دينياً على المستوى الأوروبي بعد حاضرة الفاتيكان وكاتدرائية القديس بطرس. لم يكن المنظر هو نفسه الذي ألفته عيونهم وعيون آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم... الكاتدرائية، صباح أمس، لم تكن تشبه ما كانت عليه أول من أمس. ذلك أن برجها الأعلى المسمى «السهم» الذي كان يرتفع 93 متراً عن سطح الأرض لم يعد موجوداً؛ أكلت النيران بنيته الخشبية فانهار تحت أعين آلاف المتجمعين في محيط الكاتدرائية وملايين المشاهدين الذين تسمروا أمام شاشات التلفزة في فرنسا والعالم. بعضهم قارن بين انهياره وانهيار البرجين التوأمين في نيويورك في سبتمبر (أيلول) عام 2001، بفعل ارتطام طائرتين بهما.
الدولة الفرنسية بقدها وقديدها كانت ليلة الاثنين - الثلاثاء، هناك، عاجزة دامعة وحائرة: كيف حصل هذا لكاتدرائية نوتردام التي اجتازت العصور ولم تعرف أبداً كارثة بهذا الحجم طيلة 856 عاماً، بقيت صامدة بوجه الكوارث والحروب وعناصر الطبيعة، وإذا بها تلتهب ذات مساء تحت سمع ونظر العالم كله. والمفارقة، أن هذه الكاتدرائية التي بدأ بناؤها في عام 1163 واستمر حتى عام 1345، كانت تخضع منذ الصيف الماضي لعملية ترميم وتجديد، وكانت الهياكل المعدنية المنصوبة فوقها لأشغال الترميم مجهزة بمجسات وكاميرات تسمح برصد كل ما من شأنه أن يشكّل تهديداً.
وأمس، أعلن ريمي هيتز، المدعي العام في باريس، في مؤتمر صحافي صباحي في ساحة نوتردام، أن إنذاراً أول بحصول حريق على سطح الكاتدرائية انطلق في الساعة السادسة والثلث من مساء الاثنين. لكن عملية التحقق من وجوده لم تفض إلى نتيجة حتى جاء الإنذار الثاني بعد نحو عشرين دقيقة، وعندها تبين فعلياً اشتعال النار في البنية الخشبية التي تحمل سقف الكاتدرائية؛ الأمر الذي استدعى إفراغ الكنسية من المؤمنين واستدعاء فرق الإطفاء التي تدفقت إلى المكان بأعداد كبيرة بلغت ليل الاثنين 400 إطفائي.
بعد ذلك بدقائق، اشتدت ألسنة اللهب وطالت البرج الأعلى «سهم الكاتدرائية» وبنيته الخشبية التي تعود بعض أجزائها، وهي من السنديان، إلى 700 سنة خلت. والبرج كان مغطى بسبائك من الرصاص التي ذابت بفعل الحرارة. وبعد ساعة واحدة هوى البرج واخترق حطامه سقف الكاتدرائية ليسقط في قلبها؛ الأمر الذي أدى إلى خسائر فادحة. كذلك التهمت ألسنة اللهب أجزاء كبيرة من السقف وألحقت أضراراً بالغة بمحتويات الكاتدرائية التي نجح طاقمها بمساعدة الشرطة ورجال الإطفاء في إخراج غالبية كنوزها وإيداعها في قاعات قصر بلدية باريس القريب من المكان. وطيلة ساعات، كافح رجال الإطفاء النيران وسط صعوبات وعوائق لا تحصى، وكان همهم الأول، بعد انهيار البرج الأعلى أن يحافظوا على البرجين الآخرين الموجودين على طرفي الكاتدرائية اللذين يحملان أجراسها؛ لأن انهيارهما كان سيعني بلا شك تداعي الجدران، أي عملياً اندثار الكاتدرائية. لذا؛ ركز رجال الإطفاء على تبريد الجدران بواسطة المياه التي كانت تستقى من نهر السين مباشرة. كذلك سعوا إلى منع تمدد ألسنتها إلى أجزاء أخرى. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجّهت لهم، فإنّهم نجحوا في المحافظة على المبنى والحد من الخسائر؛ الأمر الذي سيسهل، من غير شك، عملية إعادة البناء والترميم.
في الكلمة المؤثرة التي ألقاها ليلة الحريق في ساحة الكاتدرائية، أكد الرئيس ماكرون وإلى جانبه رئيس الحكومة إدوارد فيليب وعدد من الوزراء والمسؤولين المحليين ورجال الدين، أن الكاتدرائية «سيعاد بناؤها». وفي حديثه عن الكارثة، شدّد ماكرون على شعوره بالأسى الذي يشعر به الفرنسيون لأن النيران التي التهمت أجزاء من نوتردام «التهمت تاريخهم». وبالفعل، فإن هذه الدراما الوطنية شرّعت الأبواب لبزوغ شعور وطني عارم تجاوز الأحزاب والانقسامات والسياسة، بل إن «التضامن» مع باريس غزا أنحاء العالم الأربع فانصبّت البرقيات من كل حدب وصوب، ولم يبق العالم العربي خارج هذه الحركة الإجماعية. ويمكن القول إن السياسة وضعت في غرفة الانتظار: فالرئيس ماكرون أجّل موعد الكلمة التي كان سيتوجه بها ليل الاثنين - الثلاثاء، كما ألغى المؤتمر الصحافي الذي كان مقرراً اليوم، فيما ستنحصر أعمال مجلس الوزراء هذا الصباح في تدارس سبل مواجهة الكارثة، وتوفير ما يتوجب لإطلاق عملية إعادة البناء والترميم. ويأتي ذلك عقب اجتماع تمهيدي حصل صباح أمس في مقر رئاسة الحكومة وبرئاسة إدوارد فيليب. وفي هذا السياق، قرّرت أحزاب عدة وقف الحملة الخاصة بالانتخابات الأوروبية التي كانت في أوجها مراعاة لمشاعر الفرنسيين، في حين انطلقت الدعوات للمساهمة في الاكتتاب الذي أعلن عنه ماكرون لتوفير الأموال اللازمة.
جاء الإعلان الأول من فرنسوا هنري بينو، رجل الأعمال زوج الممثلة من أصول لبنانية سلمى حايك ورئيس مجموعة "كيرينغ" المتخصصة بالأزياء والعطور والساعات والسلع الفاخرة وتضمن التبرع بـ100 مليون يورو وتلاه مباشرة تبرع بـ200 مليون يورو من برنار أرنو وأسرته وهو رئيس مجموعة الـ LVMH (لوي فويتون مويه هينيسي) المتخصصة بالعطور والمشروبات الرّوحية والمجوهرات والسلع الفاخرة. وكرّت السبحة سريعاً فتبرعت عائلة بيتانكور مالكة مجموعة «لوريـال» بـ200 مليون يورو وشركة «توتال» النفطية بمبلغ 100 مليون يورو وشركة «أرتميس» للملبوسات الفاخرة بمائة مليون. وتدفّقت مساهمات أخرى بمبالغ أقل من شركة «بويغ» للمقاولات والهواتف النقالة 10 ملايين يورو. وأعلنت مصارف عدة استعدادها للمساهمة، في حين بدأ تدفق الأموال من الخارج وأول الغيث من رجل أعمال أميركي اسمه هنري كرافيس الذي يدير صندوقاً استثمارياً. وإضافة إلى المساهمات المالية، عرضت الكثير من الشركات والمؤسسات مساهمات عينية (بطاقات طيران، خشب سنديان، خبرات توضع بتصرف عملية إعادة البناء). وأعربت اتحادات رياضية عن عزمها على المشاركة، وكان أولها اتحاد كرة القدم ورياضة الفروسية. وبجانب ذلك، طالبت رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو بعقد مؤتمر دولي للمانحين باعتبار أن الكاتدرائية تنتمي إلى التراث الإنساني وهناك كثيرون عبر العالم متعلقون بها وراغبون في مد يد العون إليها. من جانبه، دعا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية مسلمي فرنسا إلى المساهمة بالتبرعات وإظهار التضامن مع مواطنيهم. كذلك، فإن البابا فرنسيس الذي تحادث هاتفياً مع الرئيس ماكرون بعد ظهر أمس، دعا الجميع إلى «التعبئة» من أجل إعادة إنهاض كاتدرائية نوتردام. وتلقى ماكرون سيلاً من الاتصالات من رؤساء وقادة عالميين اتصلوا للتّعبير عن تضامنهم مع فرنسا.
يبقى سؤال رئيسي: هل ما حصل حادث عرضي أم عمل تخريبي؟ يبدو حتى الآن أن الترجيح يميل إلى أنه حادث عرضي. فقد قال ريمي هيتز، مدعي عام باريس، أمس: إن «لا شيء يدلّ على أن ما حصل نتيجة عمل مقصود». لكن هذا الكلام يستبق ما يمكن أن يؤول إليه التحقيق القضائي الذي انطلق أمس، وجُنّد له نحو خمسين عنصراً. ويركّز هؤلاء بداية على استجواب العمال الذين كانوا متواجدين أول من أمس. وبموازاة ذلك، ستبدأ فرق الأدلة الجنائية في جمع ما يمكن جمعه لمعرفة ما حصل بدقة، خصوصاً في منطقة انطلاق النيران. ونبّه المدّعي العام من أن التحقيقات سوف تكون «طويلة ومعقدة». لكنّه وعد بـ«توفير جميع الوسائل للوصول إلى الحقيقة ولمعرفة مصدر هذا الحريق الهائل». وحتى بعد ظهر أمس، لم يشر أحد إلى أن ما حصل يمكن أن يكون نتيجة عمل إرهابي باستثناء ما جاءت به أول من أمس قناة «فوكس نيوز» الإخبارية.
8:18 دقيقة
حريق «نوتردام» يتحول «كارثة عالمية»... والهبات لإعادة بنائها تتدفق بمئات الملايين
https://aawsat.com/home/article/1682191/%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%82-%C2%AB%D9%86%D9%88%D8%AA%D8%B1%D8%AF%D8%A7%D9%85%C2%BB-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%C2%AB%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AB%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9%C2%BB-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%87%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D8%AF%D9%81%D9%82-%D8%A8%D9%85%D8%A6%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D9%86
حريق «نوتردام» يتحول «كارثة عالمية»... والهبات لإعادة بنائها تتدفق بمئات الملايين
مدّعي عام باريس يستبعد عملاً تخريبياً والتحقيق يركز بداية على العاملين فيها
- باريس: ميشال أبونجم
- باريس: ميشال أبونجم
حريق «نوتردام» يتحول «كارثة عالمية»... والهبات لإعادة بنائها تتدفق بمئات الملايين
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة