حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

44 سنة على 13 نيسان: الاستقرار المعلق

في ذكرى 13 نيسان هذا العام انطوت 44 سنة على بدء الحرب الأهلية اللبنانية. الذكرى أعادت طرح السؤال هل انتهت الحرب باتفاق الطائف خريف العام 1990، أم أن الحرب على اللبنانيين ما زالت مستمرة بأشكال أخرى وربما على ما هو أبشع وأقسى؟ ما يتفق عليه اللبنانيون هو تاريخ بدء الحرب، فيما أغلبية المواطنين تبدو في موقع من يترحم على سنوات القصف والقتل ولسان حالهم يقول إن أحداً آنذاك لم يصل إلى حرق نفسه حتى الموت بعدما دمرته الحاجة والعوز وهذا حصل في لبنان في العام 2019!!
للأغلبية الساحقة لم تنته الحرب، لأن تراكمات 29 سنة خلّفت بصمات مريعة على كل الصعد؛ فمنذ قانون العفو عن جرائم الحرب جرى طي صفحة المحاسبة عن التسبب بقتل 120 ألف لبناني، وخطف عشرات الألوف وإخفاء أثرهم، وإحداث أكبر تغيير ديموغرافي قسري طال نحو ثلث اللبنانيين، وتهجير ربع السكان، وببساطة انتقل زعماء الميليشيات الطائفية إلى مقاعد الحكم مستندين إلى وصاية نظام الاحتلال السوري وممارساته، وتم وضع الحكم وحياة الناس وموقع البلد ودوره بين أيدي تحالف هجين من ميليشيا السلاح والمال، فعرف لبنان فشلاً في كل الميادين وتدميراً ممنهجا للدولة التي لم تسقطها سنوات الحرب وساد فساد مريع وتطاول على الحريات وانتهاك للسيادة والاستقلال.
في سجل سنوات ما بعد الطائف ذاق اللبناني المرارة، كان الديْن العام بحدود الملياري دولار في العام 1990، فارتفع اليوم إلى ما يزيد على 100 مليار دولار، ويقول خبراء إن الرقم أكبر من ذلك، ووفق «الدولية للمعلومات» يرتفع عداد الدين العام 12500 دولار في الدقيقة الواحدة هذا كفائدة وسنوياً 6 مليارات و570 مليون دولار أي أكثر من 40% من واردات الخزينة. ووفق نفس المصدر فإنه ما بين العام 1993 والعام 2018 ارتفعت أرباح المصارف سنوياً من 63 مليون دولار إلى أكثر من ملياري دولار، نحو 70% منها أرباح من عائدات سندات الخزينة، وتقول أرقام وزارة المالية اللبنانية إنه في الـ26 سنة الماضية أنفقت الدولة من الميزانيات 245 مليار دولار، توزعت الثلث الأول رواتب والثلث الثاني فوائد للمديونية المرتفعة. أما النفقات الاستثمارية فلم تتجاوز 10%، لينعكس ذلك في تفاقم البطالة إلى أكثر من 25% وارتفاع في أرقام الفقر المخيف ليتحول البلد إلى رصيف هجرة للشباب والكفاءات والأدمغة.
بعد 29 سنة على بدء مرحلة «السلم الأهلي» هناك نسبة كبيرة من اللبنانيين عاجزة عن تأمين متطلبات الحياة اليومية نتيجة الغلاء والفساد الذي ينخر كل مؤسسات الدولة، وأكبر ما يصدم هو ما يجري في السلطة التي يفترض ان تكون للناس الملجأ والحصن الحصين، عنيت بها القضاء، فالمعطيات الواردة من وزارة العدل بعد وقف عدد من القضاة بقرارات تأديبية تشير إلى أن نسبة المرتشين المعروفة في الجسم القضائي هي الآن بالعشرات، وبالتالي «إذا فسد الملح...» بماذا يملح المواطن العادي المهيض الجناح؟
على مدار السنين تكرر الحكومات المتعاقبة نفس اللغو عن ضرورة الذهاب إلى إصلاحات جدية، فيما هم يتغاضون عن مكامن الهدر والفساد الحقيقية، ويغرقون البلد بالتوظيف السياسي وتمويل النشاطات الطائفية عبر جمعيات تديرها أسر البطانة الحاكمة والأرقام مخيفة، ويترك الحبل على غاربه أمام من يضع يده على المال العام خصوصاً الجمارك وهي بمليارات الدولارات سنوياً، إلى الأملاك البحرية والنهرية ومشاعات الدولة المنهوبة، ويعلن رئيس البلاد أن الإنفاق على الكهرباء بات يعادل ثلث الديْن، وتستمر السياسات إياها، والأصح هو أن الإنفاق باسم الكهرباء التي لا تصل للناس هو باب للهدر والفساد وسرقة المالية العامة. والكهرباء ليست إلاّ عيّنة، لكن ما يفجع هو الأحاديث الحكومية التي تدعو اللبنانيين للصبر، لأن القرارات الآتية ستكون مؤلمة، والمقصود فقط استهداف الرواتب والمعاشات التقاعدية، وهل هناك بعد من ألم أكثر من تفرج أهل الحكم على «بوعزيزي» لبنان، جورج زريق الذي أحرق نفسه حتى الموت لعدم تمكنه من دفع الأقساط المدرسية لأولاده، ما يعني أن لبنان في ظلِّ نظام المحاصصة الطائفي لم يعد لمواطنيه، بل بات ملكاً لحفنة من زعماء الطوائف الذين يزدرون الناس، بدليل عدم الاهتمام بهذه العيِّنة من لوحة المآسي السوداء التي يعيش في ظلها ثلث اللبنانيين تحت خط الفقر!!
بعد 29 سنة على الانتهاء الرسمي للحرب يستمر العبث بالمصير الذي تعرض له لبنان قبل 44 سنة، ومعه رياء ودجل واستثمار يومي بالكراهية ورفع جدران الحقد الطائفي بين اللبنانيين لأن الكراهية سلاح النظام الطائفي القوي على الناس كي يستمر، ومعه تستمر الدولة مجرد بنيان ضعيف هش ينخرها الفساد وتسودها التبعية فتنشر الإحباط. النموذج الأبرز جسدته «التسوية» السياسية في العام 2016، التي شرعت أبواب الاستتباع، فالذين ادعوا أنهم اشتروا الاستقرار لتحسين الاقتصاد والعودة للازدهار وأنهم أخذوا حق البلد بـ«النأي» عن حرائق المنطقة، هم يعرفون أكثر من سواهم حجم الانهيار الاقتصادي وتزايد احتمال الانفجار النقدي نتيجة سياسات المحاصصة والفساد التي لم تتوقف. يعرفون أيضاً أن الاستقرار رهن المشروع الموكل للدويلة التي علّقت أمن البلد وأهله على أنفاق الجنوب، وأن «النأي» بالبلد الذي لم يُحترم في السابق، عاد وأطاح به حسن نصر الله الذي «هدد بالخيارات المفتوحة» دفاعاً عن «الحرس الثوري» الايراني. لا بل ما أعلنه نصر الله رداً على العقوبات الأميركية أطاح بالدولة والمؤسسات وهدد بجر لبنان إلى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وفوق ذلك جرت العودة، رغم «التسوية» وما حملته من تسليم لقرار البلد لفريق «الممانعة»، إلى خطاب المقاومة لجلد «الخصوم» السياسيين وتخوينهم، مع تجاهل كامل لدور كل هذا الفريق «الممانع» في الهدية الروسية لنتنياهو تسليمه رفات الجندي الإسرائيلي التي تم حفظها 37 سنة!
في وقت يعلن رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي نأي بلاده عن الصراع بين أميركا وإيران، ويقول: «لا نريد أن يجري على أرضنا أي صراع سواء من منظمات ضد دول أو من دول فيما بينها»، وكان لافتاً الصمت الذي التزمته الجهات العراقية المحسوبة على إيران، فإن ما قاله «حزب الله» عن دور عملي مناصر لحكام طهران يعني أن لبنان منصة لإيران وساحة لها بالكامل، ومع الانهيار الاقتصادي الداهم سيكون لبنان أمام أزمة أشد خطورة على أمنه واستقراره وسيادته. رغم ذلك لا موقف رسمياً وكأن حكام البلد مجرد ولاة عند الدويلة، وبات اللبناني مفروض عليه العيش في وطن مؤجل مرتهن لرغبات الخارج واستقراره معلق.