د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

996

«على من يريد العمل في شركة (علي بابا) توقع أن يعمل من الساعة التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساء، ستة أيام في الأسبوع. نحن لا نريد موظفين يريدون رفاهية العمل 8 ساعات يومياً، وإن لم تكن عندك الرغبة في العمل بساعات العمل (996)، فالشركة ليست المكان المناسب لك». هذا ما صرح به جاك ما، مالك ومؤسس موقع «علي بابا» الصيني، قبل أسبوع، بعد أن شهد الشهر الماضي احتجاجاً من العاملين في قطاع التقنية الصيني على ساعات العمل، التي تزيد عن 60 ساعة أسبوعياً، فيما يعرف بنظام «996».
ويقر نظام العمل الصيني 40 ساعة عمل أسبوعياً، إضافة إلى 36 ساعة عمل إضافية، وهو ما يعني أن نظام «996» غير مخالف لنظام العمل الصيني. والواقع أن ثقافة العمل لساعات طويلة أسبوعياً عادت مرة أخرى للظهور في دول كثيرة، بعد أن ارتبطت قديماً بعهد الثورة الصناعية، حينها كانت تزيد ساعات عمل عمال المصانع على 70 ساعة أسبوعياً.
وفي الصين تحديداً تكثر هذه الثقافة في الشركات التقنية، فعلى سبيل المثال، تقدم شركة «هواوي» برنامجاً تدريبياً إجبارياً للموظفين الجدد، يمتد لمدة أسبوعين في معسكر مغلق، يتم خلاله إيقاظ المتدربين الساعة الخامسة صباحاً لممارسة الهرولة، ومن ثم أخذ حصة دراسية عن تاريخ الشركة، وإكمال باقي البرنامج حتى آخر النهار. وقد وصف أحد الموظفين السابقين للشركة هذا البرنامج بـ«غسيل المخ»، يصبح الموظف بعده متقبلاً لساعات العمل الطويلة المفروضة في الشركة.
كما ارتبطت ثقافة العمل لساعات طويلة بريادة الأعمال أيضاً، فقد سبق لإيلون ماسك، مالك ومؤسس شركة «تيسلا» للسيارات الكهربائية، التصريح بأن الشخص لا يستطيع تغيير العالم إذا عمل لثماني ساعات يومياً فقط، وأنه كان يعمل لما يقارب 120 ساعة أسبوعياً، عند وجود مشكلات تصنيعية في شركته (أي ما يقارب 17 ساعة يومياً)! والواضح أن الصينيين قد اقتبسوا نظام «996» في محاولات منهم لنسخ نموذج «وادي السيليكون» في الولايات المتحدة. وقد تعني ساعات العمل الطويلة مزيداً من التوفير للشركات، إلا أنها لا تعني مزيداً من النمو الاقتصادي بكل الأحوال. ففي حين توفر الشركات رواتب موظفين من خلال فرض ساعات عمل إضافية، فإنها لا تستطيع ضمان إنتاجية هؤلاء الموظفين بكل الأحوال. وعلى النطاق المحلي، فإن ساعات العمل الإضافية تزيد – من الناحية الإحصائية – فرص إصابة الموظفين بإصابة عمل، كما أنها تؤثر على صحة الموظفين (وهو ما قاله المحتجون في الصين على نظام «996»)، إضافة إلى تأثيرها السلبي على جودة الحياة للموظفين.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن ساعات العمل لا تعني مزيداً من النمو الاقتصادي بكل الأحوال، وبشكل أدق، لم يستطع أحد إثبات علاقة وثيقة بين النمو الاقتصادي وطول ساعات العمل؛ بل على العكس، فالأرقام تشير إلى أن أكثر دولة في الناتج القومي للفرد هي لوكسمبورغ، بمعدل ساعات عمل لا يزيد على 29 ساعة أسبوعياً، وينخفض هذا الرقم في النرويج والدنمارك إلى 27 ساعة عمل أسبوعياً. بينما يزيد هذا الرقم في دول مثل المكسيك وكوستاريكا، إلى 43 ساعة عمل أسبوعياً، وروسيا وتشيلي إلى 38 ساعة عمل أسبوعياً. ويعد الاقتصاد الألماني من أقوى الاقتصادات في العالم، على الرغم من أن معدل ساعات العمل في ألمانيا أقل بكثير منه في المكسيك وإيطاليا وإسبانيا، وهي دول أضعف اقتصادياً بكل تأكيد من ألمانيا. ومن خلال الدراسات العلمية، يتضح أن الدول في حال مرورها بمرحلة نمو، تحتاج إلى أن تكون ساعات العمل فيها أكثر من مثيلاتها في الدول الغنية والمتقدمة. وتشير الإحصائيات إلى أن معدل ساعات العمل انخفض بشكل ملحوظ منذ السبعينات، في دول شهدت تقدماً خلال العقود الأربعة الماضية، مثل ألمانيا واليابان وأستراليا.
إلا أن الموازنة بين النمو الاقتصادي والرفاهة المعيشية ضرورة لا مفر منها. فالدول لا تستفيد من النمو الاقتصادي في حال امتلاء مستشفياتها بمن تضرروا من ساعات العمل الطويلة. وقد سجلت الصين حوادث تسببت فيها ساعات العمل الطويلة في وفاة موظفين في شركات تقنية. كما أن الموظفين في حال عملهم ساعات إضافية، قد لا يستطيعون إنفاق رواتبهم، وهو ما يؤثر كذلك على الاقتصاد المحلي. وقد عانت اليابان وكوريا الجنوبية مسبقاً من امتلاء أرصدة مواطنيها، الذين لم يجدوا فرصة لإنفاق رواتبهم، لقلة وقت الاستجمام المتاح لهم بسبب طول ساعات العمل. وقد قامت كوريا الجنوبية في عام 2004 بتحديد ساعات العمل بأربعين ساعة عمل أسبوعياً، وانخفضت في العقد التالي ساعات العمل بشكل ملحوظ، ومع ذلك فلم يتوقف النمو الاقتصادي لكوريا الجنوبية.