د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

عن الحالة المصرية... الجيش والثورة الشعبية

في إعلام دول عربية وإقليمية مناهضة لمصر، تسود حالة من التشويه والأكاذيب والإشاعات لا مثيل لها، تنال من كل شيء تقريبا. ومع انخراط شعوب ومجتمعات عربية أخرى، كما هو الحال في الجزائر والسودان، في عملية ضغط شعبي على مؤسسات الدولة ورموزها السياسية والعسكرية بغية تغيير النظام السياسي جذرياً، ينصح المناهضون لمصر كلا من الجزائريين والسودانيين ألا يكونوا مثالاً آخر للحالة المصرية، مع تلميح خبيث لما يجري في ليبيا.
وهو ما تركز عليه فئات مؤدلجة تنطلق من أمرين؛ أولهما قلق مركب من أن تشهد بلدانهم نموذجاً آخر لتجربة مصر في «شلح» جماعة «الإخوان» وإبعادها تماماً عن المجتمع والنظام بل والدولة أيضاً. والثاني ألا يسمحوا للقوات المسلحة بأن يكون لها أي دور في إعداد البلاد لمرحلة جديدة تراعي متطلبات التغيير ومطالب المواطنين.
وبالقطع فإن مواطني أي بلد هم أدرى بشعاب قراهم ومدنهم، وهم أحق بأن يصوغوا نموذجهم على النحو الذي يحقق لهم طموحاتهم المشروعة في العدل والحرية والتنمية والقضاء على الفساد. ولا لوم عليهم في ذلك. واستناداً لهذا المبدأ فإن المصريين أيضاً لهم الحق في أن يعيدوا بناء نظامهم السياسي كما يريدون ويطمحون، وأيضاً لا لوم عليهم في ذلك. وإذا كانت الشعوب تتعلم من بعضها، وليس فقط السياسيون والناشطون والمدونون ودعاة الحقوق المدنية، فالأفضل هنا أن يكون التعلم مرهوناً بقراءة منصفة لتجربة الآخر، لعل فيها جانباً مضيئاً يمكن الاستفادة منه، أو جانباً غير ذلك يمكن تجنبه. وأعتقد أن مثل هذه القراءة المنصفة سوف تكشف جلياً أن خصوصية كل حالة عربية في الانتفاضة الشعبية ودوافع التمرد على النظام وطبيعة التوازن المجتمعي والمؤسسي ستكون لها الدور الأكبر في تحديد مسارات التغيير من جانب، كما تحدد صعوباته التي ستفرض نفسها من جانب آخر. ولعل تذكر بعض الوقائع الحاسمة في الحالة المصرية يوضح هذا المعنى.
فقد ارتبطت بداية الانتفاضة الشعبية في مصر في 28 يناير (كانون الثاني) 2011 بالعنف المنظم والتخريب المتعمد، من قبل جماعات لها امتدادات خارجية، وهو ما تجلى في الهجوم على عدد من السجون في عدة محافظات بغية «تحرير» عناصر مرتبطة بتلك الجماعات، إضافة إلى تهريب أكبر عدد ممكن من المجرمين المحكوم عليهم في قضايا جنائية. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية جرت عدة محاكمات قضائية كُشف فيها كثير من الأمور الخطيرة، منها تسلل عدد من المسلحين من قطاع غزة عبر الأنفاق التي كانت منتشرة بكثافة عبر الحدود، شاركوا في هدم أسوار عدد من السجون وتهريب عناصر قيادية من جماعة «الإخوان المسلمين» أبرزهم الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي.
وتمثل العنف أيضاً في الهجوم على عدد كبير من مراكز الشرطة، وإحراق بعضها وقتل بعض أفراد من الشرطة الذين حاولوا الدفاع عن مراكز عملهم، وجرى ذلك في ظل عملية دعاية مكثفة ومضللة وصفت المهاجمين بالثوار، ووصفت المدافعين عن تلك المراكز بقتلة الثوار. ولم تسلم مقار الأجهزة الأمنية من الهجوم المنظم لناشطين سياسيين وتفريغها من الملفات الأمنية التي كانت موجودة فيها، وتم بث هذا الهجوم على الوسائط المجتمعية وكأنها حروب كبرى انتصر فيها الثوار على العملاء والفاسدين. وامتد التدمير المنهجي إلى المتحف المصري بغية سرقة محتوياته وكذلك المبنى الشهير خلفه والذي كان يحتضن مقر الحزب الوطني الحاكم سابقا، وامتد التخريب إلى بعض المحاكم الرئيسية في القاهرة، وهو ما رأيته بأم عيني صباح يوم السبت 29 يناير في محكمة شمال القاهرة في شارع الجلاء، حيث قام عدد من الشباب بنهب ملفات المحكمة وإلقاء أوراقها في الهواء وحرق بعضها وهم في حالة نشوة كبيرة. والمبنى حتى اللحظة يشهد على هذا التخريب المتعمد. وهي مشاهد لم توجد - والحمد لله - في حالتي الجزائر والسودان حتى اللحظة، وهما اللذان يحافظان على طابع سلمي كما يقابله دور وقور للشرطة والجيش يراعي تلك السلمية.
وفى الحالة المصرية كان الجيش عنصراً رئيسياً في المشهدين السياسي والأمني الجديدين منذ عصر الجمعة 28 يناير، حين انهارت الشرطة وبدأ الفراغ الأمني يسود في طول البلاد وعرضها، فحينها قرر الرئيس مبارك آنذاك أن يقوم الجيش بتثبيت الأمن والسيطرة على حالة الفوضى التي سادت في القاهرة والجيزة. ومنذ إعلان قرار نزول الجيش في الرابعة عصرا وحتى الساعة السابعة حين ظهرت أولى طلائع القوات المسلحة تجوب الشوارع وتنتشر حول المباني الرئيسية، سادت حالة ترقب هائلة بين المتظاهرين أنفسهم، لا سيما المتظاهرين العاديين الذين لا ينتمون إلى جماعات منظمة كانت تمارس التخريب أمام الجميع، فضلاً عن عناصر خارجة عن القانون كانت تنهب الممتلكات العامة بدأب شديد. وكان التساؤل الذي يدور في أذهان الجميع يتعلق بكيفية الحياة في ظل فوضى، ولذا بدأ الشعور بالأمان النسبي مع نزول الجيش إلى الشوارع. وهو ما لم يختبره الجزائريون ولا السودانيون. ولعل التفسير الذي تم به تبرير حركة كبار قيادات الجيش السوداني بالإطاحة بالرئيس البشير الذي طلب منهم استخدام القوة ضد المعتصمين والمتظاهرين، ورفضهم هذا الطلب، وكذلك الدور الذي لعبه رئيس الأركان الجزائري قايد صالح في إجبار أو إقناع الرئيس بوتفليقة بتقديم استقالته، يوضح أن الجيوش في البلدان الثلاثة انحازت للشعب وليس للسلطة.
في الحالة المصرية أيضا، فإن تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مسؤولية إدارة الدولة كان بقرار من مبارك بصفته الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وذلك بعد رفض المتظاهرين قراره السابق أن يسهر على تنظيم انتخابات رئاسية بعد ثمانية أشهر لن يشارك فيها هو ولا ابنه جمال. وهنا يختلف المسار المصري عن مساري الجزائر والسودان معا، اختلافاً كبيراً. وحين تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهام إدارة الدولة، أخذ عدة قرارات كبرى، أبرزها ضمان استمرار عمل مؤسسات الدولة، وحماية المرافق الحيوية، وإعلان دستوري شارك في صياغته عدد من رموز سياسية وقانونية، وتغيير الحكومة بما يناسب بعض المطالب المرفوعة من الميادين، وضمانات لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية لنقل الحكم إلى المدنيين بعد فترة انتقالية. وربما تتفق هذه الخطوات بشكلها الإجمالي مع بعض تحركات المجلس العسكري الانتقالي في السودان، ولكنها تختلف تماماً عن الدور الذي يقوم به الجيش الشعبي في الجزائر، والذي يركز على الالتزام بالدستور وليس تغييره. ولم يخل الأمر من تعقيدات ومناورات وضغوط من أكثر من جهة، وتلك قصة أخرى.