فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الشرط المعرفي للتعامل مع التراث

تشكّل المحاضرات والندوات والورشات الفكرية ميادين امتحان لأحدث التوجّهات الفكرية، وأنماط التحليل، وصيغ الرؤى. ومع موجات التحديث التي تبنتها الدول المعتدلة بالمنطقة بعد فشل مشاريع الثورة التي عصفت بالمنطقة في العقد الأخير، طغى على السطح الشكل الأوضح لأزمة كبرى في طرق معالجة المشكل في التراث الذي بين أيدينا، وهو تراث ضخم ومهم وفيه المفيد، ويمكن الانطلاق بأدواتٍ استثنائية للخروج منه بمدونات تطور الفقه وأصوله، وطرق التدوين الفقهي، وأساليب التعليم الديني، ضمن سياق العصر ومتطلباته وظروفه. كثير من الجيل القارئ الشاب تأخذه في بداية الاطلاعة نزعة انتقامية مما بين يديه من إرث، فتأخذه حماسة أطروحات القطيعة، مع أنها ضد مبدأ التغيير؛ إذ تفتقر إلى شرطين؛ أولهما: واقعية أسلوب التغيير، والثاني: التقيد بالمنهج العلمي.
وإيجاد مسافة بين النظرة الذاتية لقيمة التراث، والمنهاج العلمي المتبع، يمنح الطرح قيمة علمية ومعرفية. عدد من الأطروحات التي تحدثت عن التراث، جنى على نفسه من الناحية العلمية. حين تريد أن تنتقد مجالاً من المجالات؛ فلا بد من الإحاطة بالمنهج الذي يمكنك أن تلج به إلى الصرح موضع النقد والترميم. من دون فهم شيء من أعماقه وجذوره، لا يمكنك الخروج عنه أو نقده. ولنضرب مثلاً بأساليب بعض المستشرقين العلمية في قراءة التراث الإسلامي، وذلك بغية الإلمام بمجاله، والاحترام للمناهج العلمية أثناء ممارسة العملية النقدية، بل وبمفكرين وفلاسفة في أنحاء العالم درسوا الإسلام بطريقة تحترم المعايير العلمية رغم عدم انتمائهم للتراث، أو الإيمان بالإسلام. وهذه فكرة يشيح بعض المفكرين وجوههم عنها باعتبارهم ينظرون إلى التراث بطريقة آيديولوجية؛ الصواب والخطأ، الحق والباطل، بينما يصحّ على قولنا هذا؛ حتى على أي تراثٍ في أي مكان؛ في الهند، والصين، وإندونيسيا، والبرازيل، أي حكمٍ على التراث من دون فهمه والوعي بمجالاته، والدخول في تفاصيله من أصول فقه، وعلم الجرح والتعديل، وأساليب التخريج، والجرد للمدونات والمتون، فإن النفي أو الدفاع مع الجهل يعدّ خارج التداول في المجال المعرفي، علماً بأن الإلمام بتراث أي أمة قبل نقده لا يشترط أن تكون منتمياً إليه، بل يكفي الإلمام به.
لقد مثّل جورج طرابيشي حالة استثنائية وفريدة في مجال البحث في التراث الإسلامي... حاول بعضهم الانتقاص من وعيه بالتراث بسبب مسيحيّته، غير أنه بزّ الأقران بالاطلاع المعمق على التراث الإسلامي منذ النصوص المؤسِّسة وحتى العلاقات التي يطرحها كل مجالٍ مع الآخر. يروي طرابيشي أنه قرأ التراث الإسلامي، والمدونات، والمتون، والصحاح، والمسانيد، قبل أن يغامر بالحديث أو الكتابة حوله. ومعلوم أن مشروعه المناهض لنتائج الجابري بقي أكثر حيوية من الناحية الفلسفية والمعرفية، بل وأكثر تجذيراً للسؤال العلمي حول التراث، ولذلك استطاع أن يبسط عدته المفهومية، وخطه البحثي بطريقة مفصلة قبالة كل كتاب، منذ ردوده الأولى في «نقد نقد العقل العربي» وحتى «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث». كل أحدٍ يختلف مع نتائج أي أحد، هذا حقّ بدهي، ولكن لا يمكن التساهل بالمنهج المعرفي تجاه مجالٍ كامل يتم سحقه بجرة قلم.
يأتي هذا لتخفيف الهلع عند المجتمعات المسلمة، التي تخاف من التغيير باعتباره يقوم باجتثاث الأسس. بعض الذين يمارسون نقداً جذرياً يعلمون قبلاً أنهم لا يستطيعون التأثير، أو نقل الأفكار إلى مربعٍ آخر، والإسهام بشكلٍ حيوي لإيجاد طريق تنويرية فاعلة، فالتجديف أو الانتقاص لا يمكنهما فتح طرق ودروب متعددة تسهم في تطور الفقه والتراث في مجتمعات المسلمين التي ترزح تحت ضربات التطرف وَعَتَه الإرهابيين وتفريخ المجندين، وهو إحراج تاريخي بدأ يحاصرنا منذ الصدمة الأولى حين وجدنا أنفسنا بإزاء تطور الغرب الذي لا نفهمه، ولم نفهم أسس التقدم التي انتهجها، ورحنا نتحارب على جدوى التراث وطرق التعامل معه.
أتمنى ممن يتعاملون مع التراث بطريقة صحافية، قراءة مشروع حديث ثري للبروفسور وائل حلاق، الذي أصدر عدداً من الكتب؛ بعضها ترجم إلى العربية، مثل: «السلطة المذهبية - التقليد والتجديد في الفقه الإسلامي» و«نشأة الفقه الإسلامي وتطوره» و«الشريعة النظرية والممارسة والتحولات» و«مدخل إلى الشريعة الإسلامية» و«الدولة المستحيلة»... من خلالها يعثر بعض المتهورين على مسار علمي يرسمونه ويختطونه بغية طرح اقتراحٍ يجترح مخرجاً للمآزق.