رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

«داعش» يستعيد ممارسات «القاعدة»

ما كان ظهور البغدادي زعيم «داعش» مفاجئاً. وقد بدأ المراقبون يعللون ذلك بأنه للتعزية وشد العزائم بعد هزائم العراق وسوريا. وقد قال هو بالفعل إنّ معركة الباغوز انتهت، وإنّ «داعش» سوف ينتقم. وقد ذكر عَرَضاً واقعة سريلانكا. ولأنه ما ذكر أنه سيقاتل لاستعادة «الدولة» في العراق وسوريا؛ فقد اعتبر مراقبون أنّ الانتقام سيكون بعمليات مثل الذي جرى في سريلانكا والسعودية وبوركينا فاسو... وربما ليبيا الآن، بالقتال مع حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي ضد المشير خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي.
والذي أراه أنّ ظهور البغدادي تأخر، وما كان من أجل شد العزائم والإخبار عن البرنامج المستقبلي فقط؛ بل للإعلان أيضاً أنّ الأتراك والإيرانيين ليسوا بعيدين عنه وعن مخططاته. لقد ذكرتُ مراراً من قبل أنّ «القاعدة» و«داعش» وأمثالهما تمثّل انشقاقاتٍ في الدين، فهي تريد قهر الأصل للحلول محلَّه، بدعوى أنهم هم الأحقّ بصحيح الدين وصحيح الممارسة. ولهذا فإنّ الذئب في النهاية لا يعضّ غير ذَنَبه هو. وما دام الأمر كذلك فإنّ عمل «القاعدة» مع إيران وعند إيران ضد العرب والمسلمين الآخرين كان متوقعاً. وقد توقعتُ في عام 2016 أن يسلك «داعش» سلوك «القاعدة»، وأن يعود للعمل مع تركيا كما بدأ في الأصل ومع إيران استطراداً؛ باعتبار عداوة الطرفين للدول العربية، دول الإسلام السني، الذي يعاديه القاعديون والداعشيون ويريدون الحلول محلَّه.
عندما اجتاح «داعش» الأنبار وصلاح الدين ومضى نحو الموصل عام 2014، كانت هناك تخمينات ليومين فقط: إلى أين يتجه بعد؛ هل إلى بغداد عبر سامراء، أم إلى الحدود الإيرانية عبر ديالى؟ وكان رأيي الجازم أنه لن يتجه إلى المناطق ذات الأكثرية الشيعية ولا إلى الحدود الإيرانية. لكنني استبعدتُ التوجه نحو مناطق بارزاني الكردية، لأنه صديقٌ لإردوغان، الذي جاء الدواعش من عنده. لكنّ هذا هو الذي حدث. وقد قال لي ضابطٌ تركي متقاعد عام 2017 إنه تحت وطأة ضغوط الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد الإرهاب؛ فإنّ الأتراك قطعوا علاقاتهم بـ«داعش» عام 2015، لكنّ الأميركيين وبعد بداية هزيمة الدواعش عام 2016، طلبوا من الأتراك استعادة تواصلهم معهم لترتيبات ما بعد الهزيمة. وعندما تواصلوا من جديد، وبعض الذين عادوا للتواصل معهم كانوا في تركيا، وجدوا أنهم جميعاً صاروا على علاقة بالمخابرات الإيرانية، فتشارك الطرفان في احتضان شوائك الدواعش!
إنّ الذي يحصل الآن ومع تفكك السيطرة المركزية لقيادة «داعش»، كما تفككت سيطرة قيادة «القاعدة» من قبل؛ أنّ هؤلاء وأولئك يعيدون انتشارهم وقرارهم بحيث يظلون يخدمون أصلهم الانشقاقي فيضرون العرب والمسلمين، ويضرون الأميركيين، ويسيئون إلى العلاقات والصداقات التي أقامتها الدبلوماسيات الدينية للسعودية ومصر والإمارات، مثلما حدث في هجمات أنصار الدواعش على الكنائس الكاثوليكية في سريلانكا وبوركينا فاسو، وعلى جهات أمنية في المملكة. ولا ننسى أنّ السفينة التي حملت سلاحاً إلى ميناء مدينة مصراتة الليبية التي يسيطر على مسلحيها الأتراك، كانت هذه المرة إيرانية. كما لا ننسى أنّ هجمات الحوثيين المستجدة على الضالع ولحج باليمن، شهدت تعاوُناً بينهم وبين «القاعدة» الذي له جيوبٌ هناك من عشرات السنين. وإردوغان الذي يزداد اقتراباً من إيران لرغبته الجامحة في مواجهة الولايات المتحدة يجد نفسه متشاركاً مع فيلق القدس والتنظيمات الإرهابية العاملة مع مخابراته ومخابرات الإيرانيين في الوقت نفسه. والله يستر من ثلاثة أمور: كيف سيستخدم الشريكان «حماس» و«الجهاد» في غزة، وكيف يتآمرون على الحراك السوداني، وما الرسالة الجديدة التي يريدون من الإخوان المسلمين حملها في وجه العرب في الزمن الانتقالي هذا.
في السنوات القليلة الماضية تحركت الدبلوماسية الدينية للحكومات والمؤسسات الدينية في المملكة ودولة الإمارات ومصر والمملكة المغربية. وجاء البابا فرنسيس إلى مصر عام 2017، حيث أطلق نداء السلام بين الأديان. ثم زار أبوظبي عاصمة دولة الإمارات في مطلع عام 2019 حيث أطلق مع شيخ الأزهر وثيقة الأخوّة الإنسانية، وأخيراً زار المملكة المغربية حيث أصدر مع الملك محمد السادس وثيقة بشأن القدس. والكاثوليك والمسلمون ثلث سكان العالم، وهذه فرصة للطرفين وبخاصة للمسلمين لإبراز وجهٍ آخر للإسلام غير الوجه الأسود لـ«القاعدة» و«داعش». وعلى هذه الانطلاقة الواعدة، بل على بداية التحول الجذري في المشهد لصالح الإسلام المعتدل، ردَّ الدواعش بالهجمات القاتلة ضد الكاثوليك في سريلانكا وبوركينافاسو. فالدين الذي يدينون به لا علاقة له لا بالرحمة ولا بالسلام ولا بالقدس، وإنما هو السفك المستمر للدماء في أوساط المسلمين وأوساط أصدقائهم. وها هو البغدادي في ثاني إطلالة له منذ عام 2014 لا يملك غير التهديد بالانتقام، أي بالمزيد من سفك الدماء.
ثم إنّ الدول العربية ذاتها التي حرّكت دبلوماسيتها الدينية، حرّكت أذرُعها السياسية والاستراتيجية فقاتلت في اليمن ولا تزال، وحمت البحرين، وساعدت على التغيير السلمي في السودان، ووها هو الجيش الوطني في ليبيا يخمد التنظيمات المسلحة، لاستعادة الاستقرار، وحماية أمن مصر وتونس. وفتحت مع الكويت أفقاً لإحداث توازُن في العراق. وعلى ذلك كلِّه سارع الإيرانيون والأتراك للرد باتهامها بالتدخل والغزو. ما أرسلت الدول العربية ميليشيا مسلحة إلى أيٍّ من الأقطار العربية المحتاجة إلى الاستقرار والنمو وإخماد زبانية السلاح. وماذا نقول عن الميليشيات الإيرانية وأنصارها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والجيش التركي في سوريا، ودعم المسلحين في ليبيا؟!
هذان خطان تبلْورا في الاستراتيجية العربية: خطّ الإصلاح والتحول في المجال الديني ومجال الرؤية الإسلامية الجديدة للعلاقات بأديان العالم وثقافاته، وخطّ الدفع السياسي والاستراتيجي لإحلال الاستقرار في الدول العربية، وفتح أفق مستقبلي للاستقرار والنمو والعمل العربي المشترك، وحفظ الانتماء والسيادة.
إنّ هذين الخطين المتكاملين يواجهان تحديات، أولها التدخلات الإيرانية والتركية، وثانيها بقايا التطرف والإرهاب والأخونة التي تنشر التذمر واليأس والتمرد من جهة، وتتنكر للدولة الوطنية المدنية، وتعد الصراع مع العالم ضرورة لا مفرَّ منها.
لقد كان ظهور الظواهري بعد بن لادن نذيراً باستمرار السوء الآتي من «القاعدة». وقد ظهر وقتها من إيران فيما أحسب. وها هو البغدادي يظهر بعد الهزيمة من إحدى المغاور في سوريا أو تركيا نذيراً باستمرار السوء أيضاً. لكنّ السوء الأكبر يتمثل في الامتداد الإيراني والتركي في مجتمعاتنا ودولنا، والذي أتت معه أو معهما التدخلات الدولية. ولا مخرج من هذا وذاك إلاّ باستراتيجيات التصدي المستمرة من دول النهوض العربي.