أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

إيران وقصة فشل

نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، نظّمت جامعة ويستمنستر ندوة حول قضية مثيرة: هل ثمة إمكانية لوضع خطة بديلة لإيران؟
في أبسط صورها، دارت الحجة الرئيسية في الندوة حول أنه بعد 40 عاماً على «الثورة الإسلامية»، لا تزال النخبة الحاكمة التي يقودها رجال الدين تتصرف كجماعة لا كدولة، الأمر الذي يَحول دون تمكن إيران من التصرف كدولة طبيعية بكل ما تحمله الدول الطبيعية من مزايا وعيوب.
وخلال الورقة التي قدمتها أشرت إلى أفكار العديد من المؤرخين الإيرانيين الكلاسيكيين، خصوصاً أبو الفضل البيهقي (توفي عام 1077 م). وتتبع البيهقي المسار الذي اتخذته قبيلة «الغزنويون» التركية المقاتلة، نحو إحكام قبضتها على السلطة في إيران وبناء سلالة حاكمة، وحدد المؤرخ خمس مراحل تحقق عبرها الأمر.
كانت المرحلة الأولى «الغزو» عندما تمكن الزعيم المقاتل سبكتكين من الاستيلاء على مساحة من الأرض لاستغلالها كقاعدة لهجمات مستقبلية في إطار ملحمته القتالية. أما المرحلة الثانية فأطلق عليها البيهقي «الغلبة»، وذلك عندما تمكنت القبيلة الغازية من ترسيخ وجودها باعتبارها القوة المهيمنة داخل الأراضي التي استولت عليها. وحملت المرحلة التالية اسم «السلطة» والتي شرعت خلالها النخبة الحاكمة الجديدة في تحديد الأجندة داخل مختلف أرجاء المناطق الخاضعة لسيطرتهم. أما المرحلة الرابعة فهي «الحكومة»، والتي يجري في إطارها استغلال النفوذ الناشئ عن «السيطرة» في التحكيم بين أطراف وأجندات ومصالح مختلفة، غالباً متصارعة، على نحو يضمن الحد الأدنى من القانون والنظام والقضاء على خطر الحرب الأهلية.
وأخيراً تحمل المرحلة الخامسة والأخيرة اسم «الدولة» والتي تصبح ممكنة عندما يعتاد مجتمع ما على حكم القانون، بغض النظر عن مستوى جودة القانون ويحترم أبناؤه سيادة مؤسسات الدولة باعتبارها ممثلة للإرادة والمصلحة العامة.
وبذلك، يجري النظر إلى بناء «الدولة» باعتباره الهدف الأسمى للسياسة وشرطا ضرورياً لبناء ما يمكن أن يطلق عليها حضارة.
في القرن الـ19، أشار بعض المفكرين المسلمين، كثيرون منهم كانوا من رجال الدين، إلى إخفاق «الأمة» الإسلامية في بناء هياكل الدولة، باعتباره السبب الرئيسي وراء تراجع الإسلام، وهيمنة قوى غربية على أراضيه نهاية الأمر.
الملاحظ أن النخب الحاكمة في العالم الإسلامي، بما في ذلك حتى بناة الإمبراطوريات مثل العثمانيين والصفويين، تقدموا عبر المراحل الأربع الأولى التي جرى وصفها سابقاً، لكنها لم تصل قط إلى المرحلة الخامسة، بمعنى بناء «دولة» بالمعنى الحقيقي تقوم على حكم القانون.
وينطبق القول ذاته على غالبية الدول الإسلامية المعاصرة، ففي الكثير من الحالات، تمثل هذه الدول ما يشبه صورة كاريكاتيرية لمفهوم الدولة بالمعنى الذي يقصده المؤرخون المسلمون الكلاسيكيون.
في بعض الحالات، مثلما الحال مع «إمارة» جماعة «طالبان» في أفغانستان و«خلافة» «بوكو حرام» في غرب أفريقيا و«داعش» في العراق وسوريا، تتوقف العملية برمّتها عند المرحلة الثانية (الغلبة) أو الثالثة (السلطة).
لكن ماذا عن «الإمامة» التي بناها آية الله روح الله الخميني في إيران؟
على ما يبدو، كان «المرشد الأعلى» لـ«الجمهورية الإسلامية»، آية الله علي خامنئي، يقرأ بعض النصوص التي أعدت قراءتها، الشتاء الماضي.
وفي إطار ما أطلق عليه «مرشد إلى الحضارة الإسلامية الجديدة»، والذي جرى نشره مارس (آذار) الماضي، ادّعى خامنئي أن الثورة الخمينية أنجزت بنجاح المراحل الأربع الأولى من الغزو والغلبة والسلطة والحكومة، لكنها أخفقت في المرحلة الخامسة وهي بناء الدولة. ومع هذا، أشار خامنئي إلى أنه من دون بناء هياكل حقيقية للدولة، سيكون عاجزاً عن تحقيق حلمه ببناء «حضارة إسلامية جديدة» في غضون الإطار الزمني الذي حدده بأربعة عقود.
في غضون 40 عاماً، ربما يبقى خامنئي في الجوار لتقييم مدى نجاح أو إخفاق مشروعه من أجل البشرية في إطار دولته النموذجية.
من جانبي، ونظراً لأنني أشك في أنني سأكون لا أزال على قيد الحياة لأعلن أنه «سبق أن أخبرتكم ذلك»، أجد أن السبيل الأمثل أمامي الآن يكمن في أن أعلن صراحة تقديري، لأنه فيما يتعلق ببناء هياكل ومؤسسات لدولة بالمعنى الحقيقي، من غير المحتمل أن يأتي سجل الثورة الخمينية في ذلك أفضل من سجل القرامطة أو ثورة الزنج أو جماعة الحشاشين بقيادة حسن الصباح، ناهيك بالملا عبد الرحمن في صوماليلاند أو أخوند عبد الغفور في سوات أو محمد أحمد في جزيرة أبا، وفي الفترة الأخيرة الملا عمر وأبو بكر البغدادي.
في الواقع، يعجّ التاريخ الإسلامي بحالات استغلت خلالها قبيلة ما أو جماعة أو حتى شخصية كاريزمية، الدين كأداة للحشد لخدمة مشروع سياسي.
إلا أنّ مَن نجحوا في تجاوز المرحلتين الأوليين أو الثلاث الأولى، فعلوا ذلك من خلال إعادة الدين إلى مكانه المناسب، والانتقال إلى مراحل التقدم اللاحقة باتجاه الدولة. في بعض الحالات، اتخذت مسألة «إعادة الدين إلى مكانه المناسب» شكل ارتكاب مذابح ضد حلفاء سابقين. وفي حالات أخرى، تحقق الهدف من خلال الإصلاح وإعادة تعريف الأدوار، بل الرشى الصريحة، مثلما الكثير من المواقف في التاريخ الإسلامي.
في أفضل الحالات، كان هناك إدراك من قبل جميع الأطراف أن خلط المساحة السياسية بالأخرى الدينية يضرّ بالاثنتين. إلا أن هذا لا يعني إقرار «العلمانية»، بغضّ النظر عما يعنيه هذا المصطلح، أو جعل الدين خاضعاً للدولة مثلما حدث في تركيا الأتاتوركية.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه في إيران في ثلاثينات القرن الماضي، حاولت مجموعة من المفكرين توجيه الأمة نحو الدولة الحديثة، ليس من خلال حبس الدين داخل «غيتو»، وإنما عبر محاولة إقناعه، بل وإجباره إذا لزم الأمر، بمعرفة مكانه والاضطلاع بدوره الصحيح في المجتمع، والتخلي عن أي أطماع استبدادية. وقد نجح هذا المخطط من خلال السماح بالازدهار في إطار الدور المناسب له في الوقت الذي أعادت إيران رسم صورتها كدولة حديثة.
إلا أننا نجد إيران اليوم بعد مرور أربعة عقود على سيطرة الخمينيين على السلطة، عاجزة عن التصرف كدولة قومية.
من ناحيته، يقر خامنئي بالفشل في بناء دولة حقيقية. كما لمّح آية الله عبد الله الجوادي الآملي، أحد أبرز رجال الدين الشيعة في إيران، إلى فشل فادح كذلك على الصعيد الديني.
وأمام مؤتمر عام الشهر الماضي، أقر بأنه «على مدار الأعوام الـ40 الماضية، أخفقت حوزة قم في إنتاج كتاب واحد يمكن اعتباره مرجعاً. وإذا أخذوا منا حوزة النجف، لن يتبقى لنا شيئاً».
وبذلك يتضح أن الخمينية فشلت في بناء إيران كدولة.