إميل أمين
كاتب مصري
TT

المعارك الدونكيشوتية لن تفيد تركيا

«كهارب ليس يدري من أين أو أين يمضي»؛ هكذا يبدو السلطان إردوغان... ، والذي تلاحقه أخطاء لا حدود لها، ولا يستطيع منها فكاكاً، مهما حاول الاندفاع إلى الأمام... إنها قدر مقدور في زمن منظور يسعى وراءه، لا سيما بعد أن بدأ شعبه في رشقه بالرمح، وتركوه يستنزفه.
الهرب لا يفيد السلطان الذي اعتاد أن يخلق تشابكات وصراعات بين ملفاته الداخلية المأزومة، وسياساته الخارجية المرفوضة من الجيران الإقليميين والشركاء الدوليين، وعلى غير المصدِّق أن ينظر إلى الأوروبيين وكيف يرونه، والأميركيين وكيف يعاملونه، والروس وكيف يقدرونه.
آخر المعارك الدونكيشوتية للسلطان اردوغان إعلان بلاده أنها ستجري عمليات تنقيب في المنطقة البحرية الاقتصادية الخاصة بجزيرة قبرص، مما ينافي ويجافي قواعد القانون الدولي، ولا يرتكن إلا إلى آليات الفوضى التركية وفوقيتها التاريخية المعتادة في التعاطي مع جيرانها في الإقليم.
يعزز السلطان اردوغان من خسائر الداخل، عداواته للقبارصة اليونان، ولا يوفر تحرشاً واضحاً وفاضحاً مع أوروبا ومصر، والأخيرة أظهرت له مؤخراً درجات من الحزم والحسم، يمكن معها عند نقطة معينة أن تجعل من البحر المتوسط ميداناً لنيرانها التي لا ترحم، لا سيما في ظل بحريتها؛ الأولى في الشرق الأوسط والرابعة حول العالم.
لا يصيخ السلطان اردوغان السمع لأحد، ولا ينظر إلى الآخرين نظرة الاحترام والتعاطي الدولي الخلاق... خذله غروره، ويكاد يجره إلى مستنقع عميق من الكوارث وشعبه من خلفه، ولهذا لا يعبأ، على سبيل المثال وليس الحصر، بمطالبات منسقة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني «بضبط النفس واحترام حقوق السيادة لقبرص في منطقتها الاقتصادية الخالصة، والامتناع عن أي عمل غير قانوني».
لغة الكراهية باتت هي الطابع الغالب في خطابات وتصريحات الآغا العثمانلي، بل إن أمنياته يستشفها القاصي والداني، فهو سعيد بأن يرى مدن أوروبا الكبرى تحترق، في إشارة لا تخطئها العين إلى فرنسا تحديداً، وكأن الرجل يستدعي من قرون الصراعات الوسطي الدينية، إشارات وعلائم تجعل من غرق الحضارات أمراً واجب الوجود.
أوهام القوة التي تشاغل وتشاغب مخيلته، هي التي تدفعه في طريق اللعب على المتناقضات، وكأني به يحاول أن يقيم نفسه وبلاده نداً لموسكو أو واشنطن... إنه يسأل الأميركيين طائرات «إف35»، ويمضي في طريق صواريخ «إس400» من الروس، وينسى أو يتناسى أن للكبار محاصصات وقياسات، لكنه رجل لا يتعلم من التاريخ بالقياس، ولا من السياسة بالمقاربة.
الخطاب الأخير للسلطان إردوغان تناول مقاربة بين ما جرى في بعض من دول الشرق الأوسط تحت شعار مغشوش هو «الربيع العربي»، عادّاً أن بلاده أكبر من أن يقدر أحد على ابتلاعها.
والشاهد أن أحداً لم ولن يسعى إلى ابتلاع تركيا؛ إذ إن تركيا ليست إردوغان، لكن الغرور الإمبراطوري للخليفة المتوهم الساعي في طريق العثمانيين الجدد، يكاد يسمعنا صوت لويس الرابع عشر في صيحته الشهيرة: «الدولة أنا... وأنا الدولة». L’Etat c’est moi.
يعاني اردوغان من اختلال سياسي واقتصادي يوماً تلو الآخر... خذ خسارته في أنقرة وإسطنبول، ورغم إعادة الفرز للأصوات مرتين وتأكيد فوز أكرم أوغلو، فإنه لا يصدق ما جرى، ويعدّه كابوس ليلة صيف جاف وحار، ويطالب من جديد بإعادة الانتخابات، التي استجابت لها المحكمة العليا أمس.
عما قريب سوف ينفض الناس من حوله، لا سيما في ظل التدهور الحادث على صعيد الأوضاع الاقتصادية الداخلية؛ فبعد سنوات من نمو سريع ناجم عن طفرة في عمليات البناء والقروض الرخيصة، شهد الاقتصاد التركي العام الماضي أزمة حادة نتيجة هبوط حاد في الليرة التي خسرت نحو 30 في المائة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي.
وكعادته في الهرب، كان إردوغان يحمّل مراراً أطرافاً خارجية المسؤولية عن المشكلات التي تحدث لاقتصاد بلاده، ولا يتوقف البتة أمام حالة الاستبداد السياسي التي بات يمثلها وكيف أنها روعت المستثمرين من جميع الأرجاء وجعلت رؤوس الأموال تفر هاربة من قلب تركيا إلى الأرجاء المجاورة، بحثاً عن مناخات سياسية آمنة.
تركيا اليوم السابعة من بين 30 دولة ضمن أسوأ أداء لأسواق الأصول، والعام الماضي بلغ متوسط خسارة مستثمر البورصة نحو 21 في المائة. لكنه يعيش الإنكار المرضي ويؤكد على أن إدارته باتت تسيطر على الأمور.
مثير جداً هذا السلطان الأبوكريفي؛ إنه ينصب نفسه المدافع والمحامي الأول عن قضايا هو أول من يتنكر لها عملياً... هل أتاكم حديثه عن «صفقة القرن» المزعومة بدورها؟
بملء الفم يصيح: «تركيا لن تسمح بـ(صفقة القرن)؛ المشروع الذي يزعزع الشرق الأوسط»، ويتناسى مرضياً أن بلاده صارت موئلاً للفعلة الحقيقيين في غابة الفوضى الشرق أوسطية من الراديكاليين والإرهابيين.
أما رفضه ترتيبات ترمب اعتبار الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، فحدّث عنه ولا حرج.
الخلاصة... معارك الهروب الدونكيشوتية لن تفيد السلطان إردوغان.