د. خالد بن نايف الهباس
كاتب سعودي
TT

إيران والعالم من حولها

تُقاس في أحيان كثيرة قوة الأنظمة السياسية بمدى مرونتها وقدرتها على التكيف مع المتغيرات والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بها. ويمكن القول: إن العالم يتغير بشكل ملحوظ، لكن تبقى إيران على عنادها، ما يعني أن النظام الإيراني لا يتمتع بالمرونة الكافية لقراءة المتغيرات السياسية والاستراتيجية من حوله. ومردُّ ذلك بشكل رئيس أن النظام السياسي الإيراني يرتكز على أسس عقائدية وآيديولوجية متصلبة أنتجت بنى ومؤسسات وهياكل سياسية تفتقر إلى المرونة، بل يبدو بقاؤها مرتكزاً على مقاومتها للتغيير والتطور اللذين هما سُنّة الحياة. قد يكون هذا شأن إيراني بحت، لكن عندما يمتد أثر بل وضرر هذا الواقع السياسي الإيراني إلى دول المنطقة وخارجها، يصبح الأمر شأناً إقليمياً ودولياً.
رهان إيران على تحقيق اختراق في علاقاتها مع المجتمع الدولي أصبح مآله الفشل؛ فكلما طالت الفترة الزمنية بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع القوى الكبرى في منتصف عام 2015 اكتشف العالم خداع إيران وشرائها للوقت واستغلالها لهذا الاتفاق لزيادة نفوذها وتدخلاتها في المنطقة، بل وخرقها للقرارات الدولية ذات الصلة. يقابل ذلك يقظة إقليمية ودولية، وإدراك متزايد حول أهمية مواجهة النفوذ والسياسات الإيرانية في أجزاء عديدة من المنطقة. ويبدو أن ذلك على صلة وثيقة بنقل المعركة إلى طهران نفسها؛ فمربط الفرس في طهران، بينما ميليشياتها وأذرعها في المنطقة ليست سوى أدوات تعتاش على هبات ودعم طهران لها، مقابل استخدام الأخيرة لها كأوراق ضغط توظفها عند الحاجة، وستفقد قيمتها وقدرتها حال تم تحجيم قدرة وقوة النظام الإيراني. المقصود هنا أن التغير في سلوك إيران لا يمكن فصله عن طبيعة النظام الإيراني العدواني التدخلي في شؤون الغير، ولا يمكن فصله عن عقيدته السياسية والاستراتيجية في المنطقة والعالم، والتي جميعها قادت إيران إلى الدخول في علاقات متوترة مع غالبية المجتمع الدولي.
الضغوط الآن تتزايد على إيران بسبب سياساتها «العبثية» في المنطقة، ومن دون شك أن إيران أصبحت في حيرة من أمرها لجهة محدودية الخيارات أمامها من ناحية، ومحدودية البدائل من ناحية أخرى. فالعقوبات الأميركية على طهران أصبحت مؤلمة، ومحاولة واشنطن «تصفير» النفط الإيراني في بلد ريعي مثل إيران ستكون موجعة للاقتصاد الإيراني، الذي يعاني من ارتفاع معدل البطالة والانخفاض الحاد في سعر العملة. وتهديد القيادة الإيرانية مؤخراً بالتخلي بشكل تدريجي عن بنود الاتفاق النووي الإيراني سيدفعها إلى مواجهة عقوبات إضافية من القوى الأوروبية في حال أقدمت عليه، ما يجعلها في وضع أكثر صعوبة. من ناحية أخرى، فإن خياراتها الإقليمية ومع بعض القوى الدولية، ضئيلة في ظل الإصرار الأميركي الكبير على تقليم أظافر طهران.
رد طهران على الضغوط المتزايدة عليها أتى كعادته غير عقلاني وغير موضوعي وينطوي على نبرة التحدي والمواجهة بدلاً من المراجعة والابتعاد على التدخل في شؤون الغير. التهديدات الإيرانية بضرب المصالح الأميركية في المنطقة وخارجها لا يعدو وفق تصورنا كلاماً مكرراً، جزء منه للاستهلاك الداخلي، والجزء الآخر يبدو ردة فعل طبيعية لمقدار الألم الذي تعانيه حالياً، ناهيك بالشكوك حول مدى إمكانية قيام إيران بذلك في ظل محدودية قوتها مقارنةً بقوة دولة عظمى مثل الولايات المتحدة. فتهديدها بغلق مضيق هرمز الذي يمر من خلاله أكثر من 18 مليون برميل نفط يومياً يعد انتحاراً سياسياً في حال حاولت طهران الإقدام عليه، ولن يمر مرور الكرام؛ فالقوة البحرية الأميركية في المنطقة قادرة على التصدي لذلك لأن الأمر يرتبط باستقرار سوق الطاقة العالمية، وبالتالي على صلة وثيقة بنمو الاقتصاد العالمي برمته.
كما أن محاولة إيران الربط بين الملفات والسياسات الإقليمية وإيجاد مبررات لسلوكها المزعزع للاستقرار، وإلقاء اللوم على بعض دول المنطقة وقادتها، لن يلقى آذاناً صاغية داخل أو خارج المنطقة، لأن الحقائق واضحة للعيان، والدور الإيراني السلبي في الشؤون الإقليمية أصبح نمطاً مستمراً منذ الثورة الإيرانية عام 1979.
واقع الأمر أن استمرار عبث إيران بالمنطقة لا يمكن تحمله، وطهران مسؤولة مسؤولية كاملة عما تعانيه المنطقة من تأزم وتوتر وعدم استقرار. فهي، من خلال أذرعها في المنطقة أسهمت وتسهم بشكل ملحوظ في التأزم الإقليمي، بل والتردي السياسي والأمني القائم في بعض دول المنطقة. وليس هناك أدنى شك في أن ورقة التوت التي لطالما أمسكت بها إيران أصبحت على وشك السقوط سياسياً واقتصادياً. ويظل السؤال: إلى متى سيظل استقرار المنطقة أسير التعنت والعبث الإيرانيين؟ وهل ستتغير قناعة النظام الإيراني القائمة على ضرورة تغير العالم من حول إيران بدلاً من تغيير إيران لسلوكها وعقيدتها السياسية؟ الثابت تاريخياً أن الأنظمة القمعية المؤدلجة لا تتغير من تلقاء نفسها، بل تظل حبيسة طبيعتها المؤسسية الخشبية، وكلما زادت عليها التهديدات كابرت وزاد تصلبها وحاولت حماية نفسها، وإيران ليست استثناء في هذه الحالة.

- الأمين العام المساعد للشؤون السياسية بجامعة الدول العربية