سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

منطق الحاخام الذي لا يزال يحرّك القضية

لا تزال القصة الشهيرة عن الحاخام والقروي والخنزير، أصدق القصص المروية في التعبير الصادق عن الوضع الفلسطيني الإسرائيلي في العموم، ثم عن مشهد الضربات التي تبادلها الطرفان في غزة قبل أيام، بشكل خاص، فالمشهد جزء من مشهد أعم في النهاية، وفي الحالتين تشعر وكأن الطرف الإسرائيلي بالذات يظل يفتح كتاب الحكايات القديمة، كلما وجد نفسه مدعواً إلى كتابة حلقة جديدة من حلقات الصراع مع الطرف الآخر الذي يمثل أصحاب الأرض.
والقصة تقول إن قروياً أقام في بيت من غرفتين، وإنه سكن في غرفة ووضع خنزيراً كان يملكه في الغرفة الأخرى، وإن وجود الخنزير في الغرفة المجاورة كان يضايقه كثيراً، وإنه بحث طويلاً عن حل فلم يكن يصل إلى شيء، ولم يجد مفراً في آخر المطاف إلا أن يذهب إلى استشارة حاخام الحي، لعله يعثر عنده على حل يريحه من عذاب وجود الخنزير في الغرفة الأخرى!
وذهب يروي حكايته ويريد حلاً، وكان الحاخام يسمع ويفكر في الأمر، وقد بدا في لحظته وكأن الأمر قد استغرقه تماماً، ثم فجأة التفت إلى القروي المسكين كأنما الحل قد لمع في عقله في لحظة، وكانت النصيحة أن يؤخذ الخنزير ليعيش مع صاحبه في غرفته، ولم يفهم الرجل المُعذب في حياته مغزى هذ الحل الغريب، ولكنه سكت واستجاب، فلقد كان كغريق يتعلق في أي شيء ينقذه.
وعاد المسكين إلى البيت ينفذ ما سمعه بالحرف، وكانت هذه هي التعليمات، فالحاخام يدعوه إلى أن يسمع، وينفذ، ولا يناقش طويلاً، وأن يؤجل النقاش والفهم إلى وقت لاحق، وألا يستعجل النتيجة، لأنه سوف يرى بعد أسبوع وليس الآن.
وقد مرّ الأسبوع كأنه دهر، وما كاد يمر حتى كان الرجل يسارع إلى حاخامه يدق بابه بقوة ويستغيث. فقبل أسبوع كانت حياته صعبة، ولكنها كانت محتملة، كانت مزعجة ولكنها كانت ممكنة، كانت تؤرقه ولكنه كان يتعايش معها، ولكن ما كاد يأخذ بالنصيحة ويأخذ الخنزير معه، حتى انقلبت الحياة إلى جحيم، وحتى صارت مستحيلة، وحتى أصبح يتمنى الموت ولا يرى سواه بديلاً يرفع عنه عبء ما يعيشه ويعانيه.
واستقبله الحاخام باسماً في هدوء شديد، وسمع منه في هدوء أشد، وكأنه كان يتوقع عودته في موعده بالضبط، أو كأنه لم يكن السبب في المعاناة المضاعفة التي طرأت وضغطت على حياة القروي، الذي راح يداري دهشته وهو يسمع نصيحة جديدة مناقضة للأولى، وكانت النصيحة الجديدة أن يرجع فيعيد الخنزير إلى حيث كان في البداية، وأن يعود بعد أسبوع أيضاً، وسوف يرى إلى أي حد سيختلف الأمر هذه المرة عن المرة السابقة.
وعاد وفعل ثم رجع مسروراً سعيداً يخبر الحاخام بما كان، فلقد تنفس هواء حجرته أخيراً، وملأ صدره من الراحة وصفاء البال، ونام بمفرده في غرفته لا يضايقه فيها شيء ولا يزعجه، أو هكذا تصور وتخيل، ففي غمرة رغبته في التخلص من وضع مؤلم طرأ على حياته، لم ينتبه إلى أن الحياة التي عاد إليها هي نفسها التي عاشها من قبل وعانى منها، وذهب يشكو وطأتها على قلبه، وأن كل ما حدث أنه وجد نفسه مُخيراً بين معيشة سيئة وبين أخرى أشد سوءاً، فاختار الأولى على الفور دون أن يلتفت إلى مساحة المفارقة ذات المعنى المُبكي في الموضوع.
وبالقياس الذي يعرفه أهل الفلسفة والمنطق، يمكن للقصة ذاتها أن تسعفنا في قراءة الكثير مما يجري حولنا فلسطينياً وعربياً، ولا تزال حياة الفلسطيني بالذات تدور في الدائرة ذاتها التي دار فيها القروي حائراً بين بيته، وبين مقر الحاخام، باحثاً عن حياة أقل سوءاً، ولا يزال المحتل يجد متعته في وضع أصحاب الأرض المحتلة أمام خيارين لا ثالث لهما: واحد سيئ قديم، والثاني أسوأ منه جديد، ولا يفكر الإنسان كثيراً وهو يختار، فهذه هي الطبيعة التي خلق الله عليها البشر.
ولو أنت قرأت تفاصيل اتفاق الهدنة الذي جرى توقيعه هذا الأسبوع لوقف التصعيد الذي دام ثلاثة أيام بين الطرفين، فسوف تجد قصة الحاخام والخنزير والقروي حاضرة بقوة على أرض قطاع غزة، حيث تبادل الطرفان إطلاق الصواريخ، وسوف تجدها قصة تُحلق عالياً بأطيافها وتملأ الأجواء، وسوف تجدها قصة مكررة ومنسوخة من طبعات سابقة لها جرت بالكيفية نفسها، وسوف ترى إذا طالعت ما حدث من هذه الزاوية، أن الحاخام لا يمل من العودة إلى قصته المفضلة في كتابه المفضل كلما اقتضت الضرورة، ولا القروي يجد مفراً من اللجوء إلى السيئ ما دام بديله الوحيد هو الأسوأ.
إن الاتفاق الذي تم بوساطة مصرية بين عدد من الفصائل الفلسطينية التي أطلقت مئات الصواريخ على عدد من المدن الإسرائيلية، وبين الحكومة في تل أبيب، يذهب إلى تخفيف الحصار على القطاع، ثم يذهب إلى تحسين الكهرباء والوقود والاستيراد والتصدير!
وسوف تكتشف أن الكلام في الاتفاق عن تحسين الكهرباء والاستيراد والوقود والتصدير، يعود بها كلها إلى ما كانت عليه قبل بدء التصعيد، ولا يضيف لها أي جديد، وأن الكلام في الاتفاق ذاته عن تخفيف الحصار على القطاع يريد العودة إلى ما قبل التصعيد، ولا يطمح فيما هو أبعد من ذلك، لقد كنا هنا ثم ذهبنا إلى هناك تحت وقع الهجمات والهدم والتدمير وقتل الأطفال، ولا نريد الآن سوى العودة إلى هنا.
وفي المسافة الفاصلة بين هنا وهناك، سقط شهداء، وتهدمت بيوت، وتشردت عائلات، وأذاعت وكالات الأنباء صوراً لمنازل صارت أكواماً من التراب.
وسوف يكون الهدف الأساسي لحركة حماس في مرحلة ما بعد اتفاق الهدنة، هو فقط ضمان تخفيف الحصار، لا إنهاء الحصار أبداً، ثم هو فقط ضمان تحسين الوقود، والكهرباء، والتصدير، والاستيراد، لا توفيرها إطلاقاً، وسوف تكون النتيجة هي العودة إلى المربع الأول، فكأن هذا هو السقف الذي تتحرك القضية تحت مظلته، وكأن هذا هو السقف الذي لا سقف يعلوه في الطموح لدى أبناء القضية.
ولكن هذا السقف ليس قضاءً وقدراً بكل تأكيد، فلله عباد إذا أرادوا أراد، ومعنى الإرادة في هذا السياق أن يكون الزمام في يد القروي، إذا استعدنا القصة برمزيتها في كل موقف فلسطيني، فلا يستدرجه الحاخام في كل مرة إلى نقطة الصفر.
لا بد للقروي من هذا، وإلا فالتجربة في حياته هي تجربة لا رصيد لها.