خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ذكريات حرب الخليج

أتذكر أنني قرأت نتفاً من الكتاب الصادر عن حرب الخليج الثانية، بعنوان «رماد الحروب». ولفتت نظري فيه إشارته إلى أن القيادة العراقية قد دخلت الحرب بمعلومات سياحية هشة. لا أدرى إن كانت الفصول الباقية من الكتاب المذكور قد أشارت إلى هذه المهزلة، التي شهدتُ وخبرتُ بعض أجزائها بنفسي في حينها. وعلى كلٍ، فإنني لا أتوقع أن يمضي الكتاب المذكور فيأتي على كل صفحاتها بالتمام.
كنت عندئذ أعمل استشارياً ومحرراً في المركز الثقافي العراقي في توتنهام رود، بلندن، عندما انطلقت القوات العراقية لغزو إيران، واحتدمت المعارك الدامية بصورة خاصة في مدينة المحمرة وأطرافها من عربستان. اختلطت عليّ أسماء المواقع نظراً لأن الإيرانيين يذكرونها بشكل وصيغة، والعراقيين يذكرونها بشكل آخر، والإنجليز بشكل ثالث. لا عجب أن اختلطت عليّ الأمور. وعندئذ عقدت العزم على الذهاب إلى دار الخرائط في شارع سانت مارتن في قلب لندن. كان يحدوني الأمل أن أقتني خريطة مفصلة، توضح لي الأمور في كل ما أحتاجه وأجهله. سألت الموظف المسؤول عن خريطة دقيقة ومفصلة لمنطقة الأحواز، وبصورة خاصة ميناء المحمرة. فأخرجوا لي خريطة بهذا الشكل المطلوب، مأخوذة من الجو، واعتذروا لي قائلين إنها خريطة طيارين، وقد عفا عليها الزمن حقاً وحقيقة. فهم في هذه الأيام - أقصد الأيام التي زرتهم فيها - يعتمدون على الخرائط المصورة من عدسات الأقمار الصناعية (الساتلايت). ولم تصلهم بعد خريطة الأحواز إلى مكاتبهم في شارع سانت مارتن المذكور. قلت للموظف، جزاكم الله خيراً، الخريطة الجوية تكفينا وأكثر، بالنسبة لشعوب متأخرة مثل حالنا.
أخذت الخريطة وعلّقتها في مكتبي في المركز الثقافي العراقي، الوارد ذكره أعلاه. وانطلقت أضع الدبابيس والإشارات على الخريطة، حسب تطورات القتال ومجرى الحرب. دخل السيد مدير المركز الثقافي، فأعجب بما رأى، وأخذ الخريطة مني، ووضعها في مكتبه الخاص.
دخلت غرفته في اليوم التالي، فلم أجد الخريطة بتاتاً. اختفت من الحائط كلياً. سألته عنها، فقال لقد زارني الملحق العسكري للسفارة العراقية، ورأى الخريطة وذهل بها. وأخذها معه. حكم عسكري! وطلب مني المدير أن أذهب وأشتري نسختين جديدتين، واحدة له، وواحدة لي. بيد أنه سرعان ما خابرني في اليوم التالي، وطلب مني شراء 6 نسخ أخرى من الخريطة لوزارة الدفاع في بغداد. وقال لقد ذهلوا هناك في الوزارة في بغداد عندما سمعوا بهذه الخريطة.
إنني من عشاق السياحة واعتدت ألا أزور بلداً أو مدينة من دون أن آخذ معي خريطة له ترشدني إلى معالم المكان. الواضح أن وزارة الدفاع العراقية لم تقم بهذا المجهود السياحي البسيط. فهاجمت مدينة، من دون أن تكون لديها خريطة للمدينة. ولا عجب أن المقاومين الإيرانيين كانوا يهربون من زقاق، ثم يأتون من الخلف من زقاق آخر، ويباغتون القوات العراقية التي كانت - كما يبدو لي - تسير كالأعمى في حفلة عرس.
ذهبت ثانية إلى مخزن الخرائط لشراء النسخ المطلوبة، ولكنهم أجابوني بأن جميع النسخ قد نفدت! لقد اشتراها الإيرانيون! فالإيرانيون أيضاً - كما اتضح - لم يملكوا خريطة لمدينتهم! وهكذا استمرت الحرب 8 سنوات، بفضل التوازن في الجهل وعدم الكفاءة بين الطرفين.