رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الرد الإيراني على العقوبات وثوران الميليشيات

اقترن ظهور البغدادي بظهور نصر الله، ولفت الانتباه تركيزهما معاً على السعودية وكبار المسؤولين فيها. وقد سارعت الجهات الدولية إلى اعتبار أنّ «داعشاً» لا يزال خطراً. بل وقد تذكر هؤلاء تقليد طرائق «القاعدة». أما زعيم «حزب الله»، فإنَّ أحداً من المسؤولين اللبنانيين لم يُجبهُ، إمّا بسبب الخوف، أو لأنّ الخضوع والإرضاء لا تزال لهما اليد العليا. بيد أنّ هناك من تذكّر تعاوُنَ «القاعدة» مع الإيرانيين من قبل، وترجيح أنَّ الإيرانيين إلى جانب الأتراك هم الذين يحاولون الإفادة من تحركات «داعش» في العالم العربي وأفريقيا الآن. وقد سبق لنصر الله أن زعم أن هناك تواصلاً مع «داعش» علناً عندما زعم أنه إنما يتواصل معهم لإخراجهم من لبنان!
وقد اجتمع لبنانيون في «7 مايو (أيار)»، ليذكِّروا باحتلال «حزب الله» بيروت بالسلاح في التاريخ نفسه عام 2008، وليقولوا إنّ العهد وتسوياته وهذا الخضوع للحزب، والتظاهر باستحسان تصرفاته، إنما أساء ويسيء إلى علاقات لبنان بالعرب والمجتمع الدولي، وليحذّروا بأنّ العرب لن يظلوا ساكتين أو مقبلين على دعم لبنان في أزماته، ما دام قد تحول إلى منصة لمناصبتهم العداء، والتهديد بالإضرار بهم، كما يفعل البغدادي، والاستمرار في العدوان على الشعب السوري، والتدخل في دول عربية عدة.
منذ سنواتٍ يُظهر الحزب انزعاجاً شديداً من دعم التحالف العربي للشرعية في اليمن، وهو الأمر الذي لا يخلو منه خطابٌ لنصر لله، وكان مشوباً من قبل بصيحات الانتصار، لكنه هذه الأيام مُلحٌّ في الانتصار لإيران في مواجهة العقوبات، واتهام المملكة بالتعاون مع الأميركيين وباقي الإمبرياليين في اليمن، وهذا إلى تعمد نصر الله ونائبه الإهانة الشخصية، والدعاية الطائفية الصُراح. وإلى صمت المسؤولين اللبنانيين أو استحسانهم لكل ذلك.
وفي الأيام الأخيرة تحرك الأميركيون في البحر المتوسط والخليج والمحيط الهندي وجلبوا طائراتٍ وسفناً حربية، عادّين أنهم إنما يردعون أو يحولون دون هجمات إيرانية كان الأخيرون سينفذونها بواسطة أنصارهم في البحر والبر. وقد جاء بومبيو وزير الخارجية الأميركي إلى بغداد ليُبلغ رئيس الوزراء عبد المهدي بجدية المخاطر، وليطلب صون المصالح الأميركية في العراق.
أما الوجه الآخر للحراك؛ والذي تقوم به إيران بنفسها، فيتمثل في مقاربتها للملف النووي بالذات وللاتفاق حوله، والذي خرجت الولايات المتحدة منه. لقد حثت الدول الأوروبية والصين وروسيا إيران على البقاء في الاتفاق، وقال الأوروبيون إنهم سيجدون مخرجاً لمساعدة إيران. وقبل أشهرٍ أعلنوا عن آلية لذلك قالت إيران إنها ليست كافية، لكنها مستعدة للانتظار من أجل التنفيذ. الآن تقول إيران إنّ الأوروبيين ما أنفذوا 10 في المائة مما وعدوا به (ظريف)؛ ولذلك، فإنّ إيران ستتخلى عن إنفاذ بعض «الالتزامات الطوعية» التي هي من حقّها عندما يخرج طرفٌ على الاتفاق. وما سُرَّ الفرنسيون بذلك، وقالوا إنّ على الإيرانيين أن ينفّذوا الاتفاق كاملاً، أو تجد فرنسا نفسها مضطرة للعودة إلى نظام العقوبات الذي كانت الدول تتبعه ضد إيران قبل الاتفاق عام 2015!
ما قالت إيران صراحة إنها ستخرج من الاتفاق، لكنّ الفرنسيين هكذا فهموا «الإجراءات» التي تريد إيران العودة إليها، ومنها زيادة التخصيب، والعودة لتفعيل مواقع عدة كانت قد أوقفت العمل فيها بمقتضى الاتفاق.
الرئيس دونالد ترمب خرج من الاتفاق لثلاثة أسباب؛ أولها وأهمها أنّ الاتفاق فيه ثغرات تسمح لإيران بمتابعة نشاطاتها النووية بحسب البرنامج الذي وضعته منذ عام 2003، وأنّ الاتفاق يؤجِّل ولا يُنهي البرنامج النووي، فتستطيع إيران العودة إليه بعد 10 أعوامٍ أو 15 عاماً. أما السبب الثاني فهو متابعة إيران برنامجها في إنتاج وإطلاق الصواريخ الباليستية بعيدة المدى والتي تستطيع حمل رؤوس نووية في المستقبل. والسبب الثالث ممارسة إيران التخريب والإرهاب في محيطها وفي العالم من خلال الميليشيات الإجرامية التي كوّنتها والأخرى التي تدعمها، ودعم الدول الفاشلة والمارقة في الأعمال الإرهابية، والأُخرى غير المشروعة بنفسها أو من خلال التعامل مع منظمات إرهابية وإجرامية، مثل تجارة المخدرات وغسل الأموال، والإعداد والعمل ضد أصدقاء الولايات المتحدة في الإقليم والعالم.
أما الحصار الذي تمارسه الولايات المتحدة على إيران من أجل إرغامها على العودة للتفاوض لتحسين شروط الاتفاق، وإيقاف إنتاج الصواريخ الباليستية، والمنع من ممارسة التخريب والإرهاب في الجوار والعالم؛ فأهم بنوده الكثيرة والتفصيلية أمران: منعها من تصدير وبيع البترول والغاز اللذين يمثلان نسبة 70 في المائة من الدخل القومي، ومنعها من المشاركة في النظام المالي العالمي إلا بشروطٍ قاسية جداً ومحددة المجالات.
وما أظهرت إيران تراجعاً حتى الآن في أي من النقاط الثلاث سالفة الذكر. وفي نظر المراقبين؛ فإن إيران تستطيع الصمود لبعض الوقت لأنّ عندها شبكات سرية واسعة، ولأنّ جهات دولية كبرى مثل الصين والهند وروسيا وتركيا ودول أوروبية عدة مستعدة للتعاون معها للتخفيف من تأثير العقوبات، وانتظار نهايتها بذهاب ترمب من السلطة عام 2020.
ونحن العرب لنا مصلحة استراتيجية في ألا يكون لدى إيران ولا لدى إسرائيل سلاح نووي. بيد أنّ العاملين الملحاحين الآخرين بالنسبة لنا الآن هما الصواريخ الباليستية، والتدخلات الطائفية والميليشياوية الإيرانية التي تنخر المجتمعات وتخربها، وتخلق دويلات داخل الدول. وإذا كانت الصواريخ تؤثر علينا وعلى غيرنا، ويمكن أن تكون لدى دولنا مضادات لها؛ فإنّ التدخلات الطائفية الإيرانية والمنتشرة في العالمين العربي والإسلامي، والتدخلات الميليشياوية المنتشرة في دول عربية عدة مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين؛ كل تلك التدخلات هائلة الضرر، وتبقى آثارها لآمادٍ وآماد. وفي بلادٍ مثل لبنان وسوريا واليمن، صار الوجود الطائفي والميليشياوي الإيراني داءً عياءً الخروج منه صعبٌ جداً. ولذلك يصبح أمراً لا يمكن غضّ النظر عنه على الإطلاق: التسامح مع سطوة ميليشيات إيران والخضوع لها - أو الدخول في تحالفاتٍ معها ذات طابع طائفي أو من باب «تحالف الأقليات». والأمران حاصلان في لبنان، ويزداد خطرهما وضررهما في هذه الظروف بالذات، لأنّ إيران مُحاصَرة، وتحتاج إلى استعمال أذرُعها في كل مكان لإزعاج أميركا، وإزعاج العرب؛ سلطاتٍ ومجتمعات، خصوصاً الذين يريدون حفظ استقرارهم ووحدة دولهم ومجتمعاتهم.
في ذكرى احتلال «حزب الله» بيروت بالسلاح في 7 مايو (أيار) 2008، واستمرار هجمات زعماء الميليشيات المتأيرنة على المملكة والإمارات، ينبغي أن تظل المواقف الوطنية والقومية واضحة في: التمسك بالاستقلال الوطني، والدستور والعيش المشترك، والتمسك بالانتماء العربي، والشرعية العربية والدولية.