في 26 مايو (أيار) الحالي، يتوجه الناخبون الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع في إطار الانتخابات الأوروبية التي ستوفر أول صورة حقيقية وشاملة للخريطة السياسية في فرنسا، بعد عامين على وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه.
ويجمع المحللون على أهمية النتائج التي ستفرزها هذه الانتخابات، من حيث إنها ستبين ترتيب القوى السياسية، خصوصاً ترتيب القوة التي ستحل في المقدمة، فيما تبين استطلاعات الرأي كلها أن حزب «التجمع الوطني»، أي اليمين المتطرف الذي تقوده مارين لوبن، التي نافست ماكرون على الرئاسة في ربيع عام 2017، مرشح لأن يتقدم على الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام»، ما سيرتب نتائج سياسية بالغة الأهمية للسنوات الثلاث المتبقية من عمر العهد الحالي. وحسب آخر استطلاع للرأي، فإن التجمع المذكور يمكن أن يحل في المقدمة بحصوله على 22 في المائة من الأصوات، فيما الحزب الرئاسي يحل في المرتبة الثانية. إلا أن الأمور يمكن أن تتطور في الأسابيع الفاصلة، خصوصاً أن ماكرون ينوي الانخراط شخصياً في الحملة التي عهد بقيادتها إلى وزيرة الشؤون الأوروبية السابقة ناتالي لوازو، رئيسة لائحة «الانبعاث». ويجمع خبراء الشأن الانتخابي على أن ماكرون نجح إلى حد بعيد، رغم الحركة الاحتجاجية المسماة «السترات الصفراء» في جعل المنافسة بين من يسميهم «التقدميين»، وهو على رأسهم، وبين «القوميين» الممثلين باليمين المتطرف والشعبويين. ولا شك أن تفتت المشهد الانتخابي «33 لائحة» يخدم مصالح ماكرون، ولكن أيضاً مصالح مارين لوبن. فمن جهة، نجح حزبها في اجتذاب مجموعة من شخصيات اليمين الكلاسيكي، ممثلاً بحزب «الجمهوريون»، ومن جهة ثانية توصلت إلى فرضه معارضاً أول لرئيس الجمهورية. ولا شك أن الانتخابات الأوروبية، بعكس الانتخابات الرئاسية، يمكن أن توفر لها ولحزبها الفرصة لأن يقدم نفسه على أنه القوة السياسية الأولى في فرنسا. ولتلافي هذا السيناريو، طلب ماكرون من رئيس حكومته، ومن الوزراء، أن ينزلوا بدورهم إلى الساحة، وحث الناخبين على المشاركة في الانتخابات، إذ إن 43 في المائة منهم فقط عازمون على ذلك. وإلى جانب الحزبين الأولين، تأتي لائحة «الجمهوريون» في المرتبة الثالثة (14.5 في المائة)، تليها لائحة «فرنسا المتمردة» ولائحة البيئويين (8 - 9 في المائة).
حقيقة الأمر أن قوة شكيمة اليمين المتطرف في فرنسا تندرج في سياق أوروبي عام أساسه النقمة على أوروبا المتهمة أساساً بأمرين: الأول أنها لم توفر الحماية للأوروبيين، لا أمنياً (العمليات الإرهابية)، ولا اقتصادياً أو اجتماعياً (الهجرات الكثيفة، وضعف النمو)، كما أنها لا تحافظ على «الهوية الأوروبية» في وجه «الغزو الأجنبي»، أي «الإسلامي». وهذه الثوابت لم تتغير عند اليمين المتطرف الفرنسي، رغم الانتقال من جيل الأب المؤسس (جان ماري لوبن) إلى الجيل الثاني مع ابنته (مارين لوبن) أو الجيل الثالث مع حفيدته (ماريون مارشال لوبن). والواضح أن تغيير اسم اليمين المتطرف من «الجبهة الوطنية» إلى «التجمع الوطني» لم يمس الأساسيات، حيث ما زال الحزب بصيغته الجديدة يندد بسياسات الحكومة الفرنسية «الجبانة» إزاء تدفق الهجرات على فرنسا، وعجزها عن فرض الأمن في أحياء المدن الكبيرة والضواحي التي «خرجت على النظام العام»، الأمر الذي يفضي إلى «أسلمة» البلاد مع انتشار الحجاب والتقاليد الإسلامية واللحم الحلال والمدارس الدينية. ولا يمكن التغاضي عن جوانب أساسية أخرى من آيديولوجية اليمين المتطرف، التي تدعي أن الأجانب «يسرقون» وظائف الفرنسيين، ويستفيدون من التقديمات الاجتماعية، والأهم من ذلك كله أنهم «يمسحون» الهوية المسيحية لفرنسا، ويضربون عرض الحائط بثقافتها المسيحية - اليهودية، بحيث «لم يعد الفرنسي سيداً في بلاده». والسبب في كل ذلك، كما يقولون، فلتان الحدود بفعل «اتفاقية شنغن» التي تتيح التنقل الحر في البلدان الموقعة عليها. وللخروج من هذا الوضع، يدعو «التجمع الوطني» إلى إعادة فرض الرقابة على حدود فرنسا، واتباع سياسة متشددة للهجرة تهدف لوقفها نهائياً، وترحيل من لا يحق له البقاء على الأراضي الفرنسية بصفة لاجئ.
أما على المستوى الأوروبي، فإن استراتيجية الحزب تقوم على بناء تحالفات مع الأحزاب المشابهة، أكان ذلك في إيطاليا، أو النمسا، أو بلدان أوروبا الوسطى. إلا أن «التجمع الوطني» تراجع عن طروحاته السابقة، وأبرزها المطالبة بالخروج من العملة الأوروبية الموحدة «اليورو»، لا بل الخروج من الاتحاد على غرار بريطانيا. وقد فهمت مارين لوبن أن طروحات كهذه لا يتقبلها الفرنسيون، وكانت من بين الأسباب التي أفشلتها في الانتخابات الرئاسية. من هنا، فقد عمد حزبها إلى تعديل سياسته، ولكن مع الإصرار على التمايز عن طروحات من يسمون «الليبراليين» الأوروبيين، وعلى رأسهم ماكرون، الذين يدعون لمزيد من الاندماج الأوروبي. وبدل ذلك، تدعو لوبن إلى إلغاء المفوضية الأوروبية، والتركيز على التعاون بين «الأمم» الأوروبية، واستعادة السيادة الوطنية.
من بين التكتيكات الانتخابية التي لجأت إليها لوبن تجديد وجوه الحزب، والتركيز على الشباب. من هنا، فقد سمت جوردان بارديلا رئيساً للائحتها للانتخابات الأوروبية. وهذا الأخير لا يزيد عمره عن 23 عاماً، وهو الأصغر سناً من بين رؤساء اللوائح. وواضح أن لوبن، عبر هذا الخيار، أرادت أن تقلب صفحة الماضي، خصوصاً مع والدها، وأن تبين أن حزبها يعمل للمستقبل، ولم يعد رهينة الماضي. ولا شك أن لوبن وحزبها استفادا من حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية التي اتهمت بأنها تعمل بـ«وحي» من اليمين المتطرف، ولكن أيضاً من اليسار المتطرف. والأهم من ذلك كله أن كل ما يضعف ماكرون والحكومة يصب آلياً لصالح لوبن بالدرجة الأولى والأحزاب المعارضة بشكل عام، يمينية كانت أو يسارية.
لا شك أن الاستحقاق الانتخابي القادم سيشكل فاصلاً في المشهد السياسي الفرنسي. والـ47 مليون ناخب مطلوب منهم الحسم في تشكيله، وتعيين الجهة التي ستكون قادرة على القول إنها تمثل القوة السياسية الأولى في فرنسا، وهو ما سيترك انعكاسات واضحة على المستقبل.
7:57 دقيقة
اليمين المتطرف في فرنسا يراهن على الانتخابات الأوروبية
https://aawsat.com/home/article/1718016/%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9
اليمين المتطرف في فرنسا يراهن على الانتخابات الأوروبية
- باريس: ميشال أبونجم
- باريس: ميشال أبونجم
اليمين المتطرف في فرنسا يراهن على الانتخابات الأوروبية
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة