داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

سقوط الجواسيس وصعود «الدرون»

كنتُ قد تحدثت في مقال سابق بتاريخ 21 أبريل (نيسان) الماضي عن قصتَي جاسوس إسرائيلي في دمشق وجاسوس إسرائيلي آخر في بغداد. الأول كان يتجسس على المسؤولين السوريين والقطاعين العسكري والمدني، والثاني نفّذ عملية تهريب طائرة «ميغ 21» عراقية إلى تل أبيب، في وقت كانت فيه هذه الطائرة فخر صناعة الطائرات السوفياتية.
اليوم نتحدث عن جاسوسة إسرائيلية في بيروت، قصتها تشبه قصة جاسوس دمشق إيلي كوهين الذي كاد يصبح وزيراً للدفاع في حكومة الرئيس الأسبق الراحل أمين الحافظ، وجاسوسة أخرى في القاهرة شاهدنا قصتها في الفيلم الشهير «الصعود إلى الهاوية» من بطولة مديحة كامل.
أما قصة جاسوسة بيروت فهي تشبه إلى حدٍّ ما أفلام جيمس بوند التي كانت تروي قصة عميل سري خيالي بريطاني يعمل لدى فرع «M16» المخابراتي البريطاني ولقبه الرمزي «007»، وتناوب على تمثيل شخصية العميل سبعة من نجوم السينما الكبار هم شون كونري (7 أفلام) وديفيد نيفين (فيلم واحد) وجورج لازيني (فيلم واحد) وروجر مور (7 أفلام) وتيموثي دالتون (فيلمان) وبيرس بروسنان (أربعة أفلام) ودانيال كريغ (أربعة أفلام) توزعوا على 26 فيلماً حققت أعلى الإيرادات.
وإذا كانت سلسلة «جيمس بوند» من خيال الروائي البريطاني إيان فليمنغ الذي ابتكرها في عام 1953، فإن سلسلة جواسيس إسرائيل في بعض العواصم العربية على خطوط التماسّ مع الكيان الصهيوني من واقع سجلات الموساد الصهيوني. وفي المقابل قدمت السينما المصرية قصة جاسوسة مصرية اسمها «هبة سليم» وخطيبها الجاسوس «المقدم فاروق الفقي» كما رواها الروائي الراحل المتخصص في قضايا التجسس والمخابرات صالح مرسي، والذي قدم أيضاً لملايين العرب مسلسلين تلفزيونيين ناجحين أحدهما يحمل اسم «دموع في عيون وقحة» من بطولة عادل إمام، والثاني يحمل اسم «رأفت الهجان» من بطولة محمود عبد العزيز.
أبدأ أولاً بقصة جاسوسة بيروت في الستينات من القرن الماضي المدعوّة «شولاميت كيشك كوهين» المعروفة باسم «شولا كوهين» أو «لؤلؤة الموساد» التي تجسست في لبنان وسوريا بدءاً من عام 1947، حيث دخلت إلى بيروت تحت ستار مندوبة لإحدى الشركات السياحية الأوروبية. وتوغلت في المجتمع اللبناني الناعم وتطورت علاقاتها مع كبار موظفي الدولة وافتتحت عدة ملاهٍ في العاصمة. وُلدت «شولا» في الأرجنتين عام 1917، وانتقلت إلى العراق مع أهلها ثم هاجرت إلى فلسطين عام 1937 وتزوجت من رجل أعمال لبناني يهودي. والتحقت بعد وفاة زوجها بالموساد، ونجحت في تأسيس شبكة لتهجير اليهود العرب إلى إسرائيل، بعد قيامها، عبر الجنوب اللبناني والبحر الأبيض المتوسط.
استمر تجسس «شولا كوهين» 14 عاماً إلى أن نجحت المخابرات اللبنانية في عملية أمنية معقدة وطويلة في القبض عليها والحكم عليها بالإعدام. ثم بعد ضغوط عليا تم تخفيف الحكم إلى السجن لمدة عشرين عاماً قضت منها ست سنوات فقط؛ إذ تم إطلاق سراحها بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 مقابل ثلاثة ضباط طيران سوريين أسرى وعدد من المعتقلين العرب في عملية تفاوض وتبادل بين لبنان وسوريا وإسرائيل. وقد توفيت هذه الجاسوسة في عام 2017 عن عمر قرن كامل.
وقدمت السينما اللبنانية في عام 2009 قصة هذه الجاسوسة في فيلم تحت عنوان «اللؤلؤة» من تمثيل دارين حمزة، وهو اللقب الذي أطلقه الموساد عليها. وصَوّرَ الفيلم كيف تعرّف عليها ضابط مخابرات لبناني زعم وقوعه في غرامها ثم كشف كل أسرارها. لكن الفيلم لم يحقق نجاحاً جماهيرياً لضعف ميزانيته، وتبرأ من فشله الجميع بدءاً من الممثلين إلى المخرج.
أما جاسوسة إسرائيل في القاهرة فقد كانت، للأسف، مصرية مسلمة اسمها الحقيقي هبة عبد الرحمن سليم عامر. من عائلة ميسورة. والدها بدرجة وكيل وزارة، وتملك عضوية في نادي الجزيرة، وهو أرقى نوادي القاهرة في حي الزمالك الذي تسكنه أكثرية الدبلوماسيين الأجانب، ويقع فيه أغلب السفارات العربية والأجنبية. وشاركها خطيبها المقدم فاروق عبد الحميد الفقي في تسريب معلومات غاية في السرية والخطورة عن حائط الصواريخ المصرية على امتداد جبهة قناة السويس أيام الإعداد لحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. وكان يَطّلع على أدق الأسرار بصفته سكرتيراً لضابط رفيع المستوى.
قيل إن رئيسة وزراء الكيان الصهيوني غولدا مائير بكت حزناً على مصير هبة سليم التي وصفتها بأنها «قدمت لإسرائيل أكثر مما قدمه زعماء إسرائيل»! وقبل نجاح المخابرات المصرية في اصطياد هذه الجاسوسة وخطيبها الخائن، سافرت هبة سليم إلى باريس للدراسة، وهناك سقطت في براثن عملاء الموساد الذين استغلوا تحررها وإعجابها بأجواء الحرية في فرنسا، واستطاعوا تجنيدها بسهولة ومجاناً! ووصل احتفاء تل أبيب بها إلى أن طائرات حربية إسرائيلية رافقت الطائرة التي أقلّتها من باريس إلى تل أبيب ترحيباً بها، كما استقبلتها في مكتبها رئيسة وزراء إسرائيل!
سقطت هبة سليم في أيدي رجال المخابرات المصرية في عملية تمويه خارقة تم فيها استدراجها إلى طرابلس ليبيا، بحجة رؤية والدها المصاب بذبحة صدرية. وحُكم عليها بالإعدام شنقاً وعلى خطيبها بالإعدام رمياً بالرصاص. وحين زار هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، القاهرة بعد حرب أكتوبر قابل السادات والتمس منه تخفيف الحكم عليها إلى السجن. وتنبه السادات إلى أن قصة الجاسوسة قد تعرقل عملية السلام فقال للوزير الأميركي: لقد تم إعدامها! ودُهش كيسنجر وسأل الرئيس: متى؟ فقال السادات: «النهارده». وانتهت القصة. لكن خطيبها تم إعدامه برصاصتين في الرأس من قبل القائد العسكري الكبير الذي كان الجاسوس سكرتيراً له.
رحم الله الموسيقار المصري العبقري عمار الشريعي ملحن موسيقى مسلسل «رأفت الهجان» التي صارت رمزاً لانتصارات حققتها المخابرات العربية في حرب الجواسيس.
اليوم لا نحن نحتاج إلى جواسيس، ولا إسرائيل تحتاج. جاسوسك في جيبك، وطائرة «الدرون» فوق رأسك.