د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الحاجة إلى رؤوس باردة!

لم تحتج منطقتنا إلى رؤوس باردة كما تحتاج إليها هذه الأيام، حيث التصعيد بالكلمات والسلاح بين إيران والولايات المتحدة، وحيث استخدمت إيران إحدى القوى التابعة لها (الحوثيون) في تفجير السفن في ميناء الفجيرة الإماراتي، وفي قصف محطات ضخ النفط في المملكة العربية السعودية. وربما يكون ذلك ترجمة لما كان معروفاً دوماً من أن إيران هي خطر حالٌّ وواضح على الأمن الدولي والإقليمي منذ الثورة الإيرانية في عام 1979 حتى الآن. فلأسباب جيو - سياسية وجيو - استراتيجية فإن طهران مثّلت تهديداً للدول العربية المجاورة لها في الخليج والمحيط الهندي، وظهر ذلك في توجهاتها إزاء العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين ودول الخليج العربية.
وبالنظر إلى حجم إيران وعدد سكانها وامتدادها الجغرافي على سواحل الخليج، والشعور التاريخي بنوع من المهمة والرسالة الإقليمية؛ فإن كل ذلك خلق ميولاً عدوانية وإمبريالية أضافت إليها «الثورة الإسلامية» الحماسة والعصبية ذات توجهات استراتيجية معادية لجيرانها جعلتها لا تكفّ عن بناء القدرات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية التي تُستخدم في الحضور الخارجي. وضمن هذا الإطار فإن إيران بدأت في تطوير الأسلحة النووية لكي ترفع من مكانتها وهيبتها الدولية من ناحية، وللتغطية على السلوك العدواني والمتزايد الخطورة في إطارها الإقليمي المباشر من ناحية ثانية، ومن ناحية ثالثة فإنها دفعت القوى الدولية الكبرى (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا) إلى مائدة المفاوضات لكي تحصل على صفقة قوامها تجميد برنامجها النووي؛ مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الواقعة عليها. التفسير الإيراني لهذه الصفقة أضاف إليها إطلاق يد إيران في المنطقة خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، واستخدام هذه الأخيرة، وجماعة الحوثيين فيها، للعدوان كما رأينا على الإمارات والسعودية، ومؤازرة الإرهاب في بقية المنطقة.
من جانب آخر فإن الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترمب أخذت منهجاً مخالفاً لسياسات الإدارة السابقة باراك أوباما، حيث انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران في 8 مايو (أيار) 2018، وأعقبت هذا الانسحاب بسلسلة من الإجراءات التي تعيد فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، وتقيد تصديرها للنفط، وتجعل من الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، وتقيد التسهيلات الخاصة بالاستخدام السلمي للطاقة النووية، وعززت ذلك كله برفع درجات الوجود العسكري الكثيف في الخليج. وعندما نقلت الولايات المتحدة عقوباتها من الدرجة الأولى على إيران إلى العقوبات من الدرجة الثانية التي تمنع التعامل مع الدول التي تستمر في التعامل مع إيران، فإن الدول الأوروبية لم تجد بداً من وقف تعاملاتها مع إيران. وكرد فعل لكل ذلك فإن إيران من ناحيتها أعلنت عن استئناف أجزاء من برنامجها النووي، وهو ما كان له رد فعل آخر بزيادة الوجود العسكري الأميركي، حتى ولو أن الرئيس الأميركي في الوقت نفسه أبدى استعداده للتفاوض مع إيران لعقد اتفاق جديد، وهو ما رفضته إيران حتى ولو كان مرشدها العام يعلن أن بلاده غير راغبة في الحرب.
الصورة الراهنة لكل ذلك هي على الوجه التالي: أن الأطراف كافة تعلن أنها لا تريد الحرب؛ وفي الوقت نفسه فإن الأطراف لا تكفّ عن التصعيد العسكري والسياسي؛ وفي اللحظة نفسها فإن إيران تستخدم عملاءها في المنطقة لخلق حالة من عدم الاستقرار وتهديد دول المنطقة.
مثل ذلك يسمى في «نظرية المباريات» الخاصة باتخاذ القرارات ساعة الأزمات الكبرى «مأزق السجين» الذي هو «فاعل» يواجه موقفاً لا يوجد في التعامل معه سوى خيارين كلاهما ثمنه كبير من المر والعلقم. وفي الحالة الراهنة فإن قبول الدول العربية غير ممكن بما تفعله إيران، وما تسعى إليه من العودة إلى الخيار النووي مع التوسع الإقليمي عن طريق عملائها («الحشد الشعبي» في العراق، و«حزب الله» في سوريا ولبنان، والحوثيون في اليمن)؛ وفي الوقت نفسه فإن خيار المواجهة العسكرية الأميركية الإيرانية سوف يفتح الباب لحالة من عدم الاستقرار الإقليمي في وقت لا تزال فيه المنطقة تعاني من فترة عدم الاستقرار الكبرى التي تلت ما سمّي الربيع العربي. وما يجعل هذا الخيار أكثر مرارة أنه يأتي في وقت بدأت فيه دول عربية عملية إصلاح جادة، اتخذت فيها قرارات بالغة الصعوبة سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية ومصر والبحرين والأردن والمغرب وتونس؛ كما أن دولة مثل العراق بدأت في استعادة بعض من عافيتها خصوصاً بعد فشل محاولة الانفصال الكردي عن الدولة، ومن ثم معاودة التأكيد على الدولة الوطنية العراقية. ولكن ليس معنى مرارة وصعوبة كلا الخيارين الرئيسيين انغلاق المجال للتفكير الاستراتيجي الذي يبدأ بتقوية عناصر القوة الذاتية من ناحية، والتأثير من ناحية أخرى على إيران، خصوصاً أنها لديها الكثير من عناصر الانكشاف الاستراتيجي. ولعل الخطوة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة باللجوء إلى مجلس الأمن لعرض ما حدث من عدوان عليهما من قِبل جماعة الحوثيين، الذين لا يشك أحد في تبعيتهم لإيران، تعد خطوة مهمة أمام الدول العربية والإسلامية ترفع الشرعية عما تحاوله الدولة الإيرانية من تعريف الموقف الحالي على أنه مواجهة بينها وبين الولايات المتحدة. فما حدث كان عدواناً فاجراً على دولتين عربيتين لم يكن له أن يحدث من دون الموافقة والتسليح الإيراني.
ولكن هذه الخطوة السياسية والدبلوماسية المهمة لا ينبغي لها أن تكون آخر الخطوات، ففي الأول والآخر فإن عناصر القوة العربية المشكّلة من دول التحالف الرباعي يمكنها أن تشكّل رادعاً أولياً لإيران من ناحية؛ كما أنها تشكّل رسالة للولايات المتحدة بأنها لا ينبغي أن تتخذ قرارات منفردة سوف تؤثر على استقرار المنطقة لسنوات قادمة، كما فعلت مع القضية الفلسطينية والجولان السورية المحتلة. أما الرسالة الموجهة إلى إيران فهي وقف العدوان عن طريق تابعيها من الجماعات الإرهابية، ووقف الاستخدام لهؤلاء التابعين لخلق حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار في الدول العربية التي توجد فيها، والوقف الكامل للسعي لإنتاج الأسلحة النووية، والعودة إلى القرارات الدولية الخاصة بأزمات المنطقة كلها لتنفيذها، ووضع إطار للأمن الإقليمي في الوقت نفسه. والحقيقة أن إيران ليست بالمناعة التي تظهر بها، فهي داخلياً تعاني من أزمات اقتصادية خانقة، ولم يعد لنظام الحكم فيها ما يغري بالاتباع، وأكثر من ذلك فإن إيران دولة متعددة الأعراق واللغات والمذاهب، ولا يوجد في التجربة الإيرانية الحالية أو السابقة ما يجعلها تعتقد بقبول العالم بامتلاكها السلاح النووي، أو بمد نفوذها وتأثيرها إلى خارج حدودها الإقليمية.
ولكل هذا فإن الرؤوس العربية الباردة مطلوبة للتعامل مع موقف تتشابك فيه المواقع والمصالح؛ وتحتاج إلى فتح قنوات الاتصال مع الخصوم كما هي مفتوحة مع الحلفاء، بل إن الاتصال مع العالم كله ضرورة حتى لا يختلط الحق بالباطل في أزمنة باتت فيها وسائل الإعلام الدولية فاعلاً لا يمكن تجاهله.