سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الطريق إلى القدس يمر بالبحرين!

تمنيتُ لو أن الرئيس محمود عباس، أو مَنْ يمثله، كان أول الذاهبين إلى مؤتمر البحرين، ليس للقبول فلسطينياً بما سوف يقال فيه، ولا حتى لمناقشته، ولكن للإعلان عن الموقف الفلسطيني مما تسمى «صفقة القرن»، من فوق منصة المؤتمر نفسه!
إن المعلومات المتاحة تشير إلى أن المؤتمر سينعقد في العاصمة البحرينية المنامة، خلال يومي 25 و26 من يونيو (حزيران) المقبل، وأنه يرفع شعاراً يقول: «السلام من أجل الازدهار»، وأنه سوف يتناول الشق الاقتصادي في «صفقة القرن»، وأن حكومات سوف تكون حاضرة فيه، ومع الحكومات الحاضرة سوف يأتي قادة أعمال، وممثلون عن منظمات المجتمع المدني!
ومنذ ما قبل رمضان، كانت الولايات المتحدة قد أعلنت أنها ستكشف عن تفاصيل الصفقة للمرة الأولى، فيما بعد شهر الصيام، ولم تذكر وقتها شيئاً عن أن الصفقة لها شق اقتصادي، وأن لها شقاً آخر غير اقتصادي. وحين أعلنت صباح الأحد الماضي في بيان مشترك مع البحرين، عن مؤتمر المنامة، ثم دعت إليه في موعده، كان الأمر مفاجئاً إلى حد بعيد، ولم تكن له مقدمات سابقة على أي مستوى!
وبما أن بيننا وبين موعد المؤتمر مسافة زمنية تقترب من الشهر، فلا أحد يعلم ما إذا كان الشق السياسي في الصفقة، سوف يجري الإعلان عنه قبل اجتماع أطراف مؤتمر المنامة على طاولته، أم أنه شق مختلف سوف يكون له ترتيب آخر؟!
يجوز طبعاً أن يجري الإعلان عنه بالتوازي مع الشق الاقتصادي، ويجوز أن يجري الإعلان عنه قبل ذلك، ويجوز تأجيله إلى مرحلة لاحقة، ليكون مؤتمر المنامة بمثابة بالون اختبار. ولكن الذي نعرفه أن هذا المؤتمر الذي تحدد موعده لن يقترب من الجانب السياسي في الموضوع، ولن يتطرق إليه من أي ناحية؛ لأن كل ما يهمه على حد تعبير البيان المشترك الصادر بشأنه هو: التركيز على بناء مستقبل مزدهر للشعب الفلسطيني!
وبصرف النظر عن هذا كله، فالمؤتمر هو أول محفل رسمي يناقش ما عشنا شهوراً نسمع عنه، ونقرأ فيه، ونتابع تسريباته، ونتقصى أخباره، ونتحرى أنباءه، ونسأل عن تفاصيله، ونخمن شكله ومضمونه، ثم لا نقع له على أي أثر!
عشنا نتابع ما يقال عن «صفقة القرن»، دون أن نمسك في أيدينا شيئاً ملموساً يخصها. وفي لحظات كثيرة كانت تبدو كأنها بالضبط تلك القطة السوداء التي تحدثوا عنها، باعتبارها شبيهة بالأفكار الفلسفية الكبيرة، وكيف أنهم كانوا يبحثون عنها في غرفة مظلمة، ثم كانوا يكتشفون في النهاية أن الغرفة إذا كانت مظلمة فالقطة ليست فقط سوداء، ولكنها غير موجودة!
وحين جرى الإعلان عن المؤتمر قبل أربعة أيام، تبين لنا للمرة الأولى ربما، أن الغرفة صحيح مظلمة، وأن القطة صحيح سوداء، ولكنها على غير ما عشنا نعتقد لشهور، قطة موجودة فعلاً، وليس أدل على ذلك من أن مؤتمراً خاصاً بها وحدها ينعقد في البحرين، ليقول إنها سواء كانت صفقة أو قطة، فإنها تخرج إلى العلن للمرة الأولى، وتكشف عن ملامحها للمرة الأولى أيضاً!
ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عن المؤتمر، تجلى الموقف الفلسطيني واضحاً على مستويين اثنين، كان أولهما على مستوى أحمد مجدلاني، وزير التنمية الاجتماعية، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي قال إن المؤتمر لن يشهد مشاركين فلسطينيين، وأن أي مشارك فلسطيني فيه، لن يكون سوى عميل يتعاون مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل!
وعلى مستوى الخارجية الفلسطينية، صدر بيان واضح أيضاً، ليقول ما معناه أن السلام الاقتصادي الذي يدعو له المؤتمر، يجب ألا يسبق السلام السياسي، الذي يقوم على المرجعيات الدولية ذات الصلة، وأن مال الدنيا كله لن يجد بين الفلسطينيين مشاركاً يقبل التنازل عن شبر من الأرض، أو يساوم في قيام دولة فلسطينية على الأرض المحتلة، تكون عاصمتها القدس الشرقية!
وفي اليوم التالي للإعلان عن المؤتمر، عقد محمد أشتية، رئيس الحكومة الفلسطينية، اجتماعاً لحكومته، قال فيه إن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون إلا سياسياً، وأن الشأن الاقتصادي نتاج للحل السياسي، وأن الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن تحسين ظروف العيش تحت الاحتلال!
وفي الغالب لن تجد عربياً يختلف مع كلام الوزير مجدلاني، في عمومه، ولا مع بيان الخارجية، في مجمله ومعانيه العامة، فالاتفاق بين العرب جميعاً، هو على القبول بما يقبل به الفلسطينيون، وما دام هذا هو موقفهم المعلن من «صفقة القرن» بوجه عام، وما دام هذا هو رأيهم في أول مؤتمر يتعرض لواحد من شقيها بوجه خاص، فهذا تقديرهم الذي يجب احترامه، وهذا رأيهم الذي لا بديل عن أخذه في الاعتبار!
غير أن ما يمكن أن يكون موضع اختلاف حقاً، هو أن يقال هذا الرأي خارج المؤتمر، لا داخله، وأن يسمعه الأميركيون في الإعلام، وليس من فوق منصة المؤتمر، وأن يرى الفلسطينيون فيمن يمكن أن يقبل المشاركة فيه منهم، عميلاً متعاوناً مع واشنطن مرة، ومع تل أبيب مرة أخرى!
وإلا، فماذا لو ذهب فلسطيني أياً كانت صفته الوظيفية التي يتحرك بها، إلى مؤتمر المنامة، ثم وقف على منصته مخاطباً العالم من خلالها، ليقول إن الفلسطينيين يرفضون الدعوة إلى هذا المؤتمر؛ ليس لأنهم ضد كل مؤتمر يسعى إلى حل للقضية، ولكن لأن المقدمات تؤدي دائماً إلى نتائجها، ولأن النتيجة الوحيدة التي يقبل بها الفلسطينيون هي إقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة، تكون عاصمتها القدس الشرقية، ولأن هذه النتيجة لن يؤدي إليها مؤتمر كهذا، يقفز فوق المقدمات، ولا يعترف بها، ولا يتوقف عندها!
ماذا لو سمع العالم هذا المعنى من داخل المؤتمر ذاته؟! هل يكون صاحبه الفلسطيني عميلاً لأميركا أو لإسرائيل، أم يكون عميلاً لبلده، وأهله، وتراب وطنه؟!
لقد جرب الفلسطينيون سلاح المقاطعة من قبل، وفي مناسبات ممتدة، وكانوا في كل مرة يتبينون أنه سلاح لا يصيب هدفاً، ولا يحقق غرضاً، ولا يفيد القضية في مداها البعيد. فليجربوا سلاح الحضور هذه المرة، وليواجهوا أصحاب الصفقة من قلب أحداثها، لا من خارج سياقها. ولن يفرض عليهم أحد في النهاية شيئاً لا يرغبون فيه، ولا هُم مرغمون على القبول بشيء يلامس سقف الطموحات لدى كل فلسطيني!
الغياب الفلسطيني عن مؤتمر المنامة لن يمنعه من الانعقاد، ولكن الحضور فوق منصته يمكن أن يصنع منه شاشة بعرض المنطقة وطولها، شاشة تقول إن الفلسطيني حاضر، وإن هذا هو رأيه، وإن هذه هي وجهة نظره، وإنه متمسك بهما، وإن كل عربي لا يملك إلا أن يقف إلى جواره فيهما؛ لأن صاحبهما هو صاحب القضية!