توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

هيمنة الاتجاه الإخباري على الفقه

تأسَّسَ علم الفقه في القرن الثاني للهجرة، حين وجد المسلمون أن ما وصلهم من حديث الرسول لا يغطي المسائل الجديدة. وصوَّر أبو الفتح الشهرستاني هذا المعنى بقوله إن «الحوادث والوقائع... مما لا يقبل الحصر والعد. ونعلم قطعاً أنه لم يرد في كل حادثة نص... والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعاً أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار».
والمشهور أن الإمام الشافعي (ت 204 هـ) هو الذي وضع القواعد الأولية للاجتهاد واستنباط الأحكام في كتابه «الرسالة». أما أول من مارس الاجتهاد، فالمشهور أنه الإمام أبو حنيفة النعمان وتلاميذه (ت 150 هـ). ومنذئذ انقسم المشتغلون بالفقه إلى فريقين: الفريق الذي يسمى أهل الرأي أو الأصوليين، وهو يدعو للبحث عن قواعد عامة نستفيدها من النصوص، ونجعلها مرجعاً لتكييف الحوادث الجديدة، إن تطلبت حكماً شرعياً. مقتضى هذا الرأي في نهاياته المنطقية، أن الشريعة ليست مجموعة أحكام مدرجة في نصوص، بل منهج وفلسفة عمل، جرى توضيحها من خلال أمثلة وأحكام في قضايا، ذكرت في القرآن أو حديث الرسول. وأن الاعتماد الكامل على الأدلة العقلية، سيضمن جعل التشريع متجدداً مستجيباً لعصره. هذا يقتضي بطبيعة الحال أن تخضع أحكام الشريعة للمراجعة المستمرة. ولذا يتوقع أن يختلف الحكم في الموضوع الواحد، بين زمن وزمن، وبين مكان وآخر، إذا اختلفت البيئة المادية أو الثقافية لموضوع الحكم.
أما أهل الحديث، ويطلق عليهم أيضاً الإخباريون، فهم يأخذون برؤية انكماشية نوعاً ما، تحصر التشريع في حدود المنصوص، وتمنع إنشاء إلزامات شرعية اعتماداً على اجتهاد مستقل. ومقتضى هذا الرأي في نهاياته المنطقية، هو أن قبول أصل الدين والشريعة، يعني الاقتصار على ما حدّده الشارع، وعدم التصرف بموازاته على أي نحو، حتى لو كان صلاح التصرف ظاهراً للعيان.
تختلف الحجة القيمية بين الفريقين. إذ يرى الأصوليون أن الدين غرضه صلاح الدنيا. ومن صلحت دنياه، نجا في الآخرة. بينما يرى الفريق الثاني أن غاية الخلق هي عبادة الخالق، وأن غرض الدين هو النجاة في الآخرة، على النحو الذي عرفه التنزيل الحكيم. ولذا فواجب المؤمن هو الإعداد للآخرة، ولو على حساب الدنيا.
ويتضح مما سبق أن الاتجاه الأول (الاجتهاد) أكثر قابلية للتفاعل مع التطور المادي والثقافي للمجتمع. لكن انتشاره سيفضي إلى تلاشي الفاصل بين الديني والدنيوي، وضمور ما يسمى الصبغة الدينية للحياة. أما الاتجاه الثاني (الإخباري) فهو يميل إلى نوع من الثنائية الحيوية، حيث يتعايش الديني والدنيوي، كل في مجال خاص به. وفي هذا الإطار يعمل أهل الفقه على إبراز الصبغة الدينية، والتأكيد على خطوط الفصل بين العالمين.
رغم أن ظهور الاجتهاد كان تعبيراً عن حاجة المسلمين لتطوير حياتهم الدينية، إلا أنهم - لأسباب كثيرة - تراجعوا عنه مبكراً، وهيمن الاتجاه الإخباري بشكل صريح أو ضمني.
وفي وقتنا الحاضر لم يعد للعقل دور مستقل. بل أصبح تابعاً ثانوياً. ولهذا تجد الفقهاء يبحثون عن حلول لمشكلات الحياة الحديثة في كتب الحديث أو في تراث أسلافهم، رغم علمهم بأن الحل مستحيل، ما لم نعط العقل دوراً مستقلاً موازياً للكتاب والسنة. لكن قراراً مثل هذا يتطلب تعديلاً في التصور الأساسي أو الفلسفة التي ينطلق منها الفقيه، على النحو الذي شرحته آنفاً.