يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

أحلاف تقويض الاستقرار والتحديات

في دورات العنف المسلح تاريخياً، عادة ما يخلف فترة الركود انتعاش على مستوى الأفكار المتطرفة كجزء من نتائج التجييش والتصعيد، ثم تبدأ من جديد فترة التجنيد والاستقطاب والإعداد.
والحال أن هناك تحولاً مهماً يجب استثماره في الواقع المحلي للسعودية، حيث ثمة رفض للتطرف بكل أشكاله في المملكة ومن أعلى رأس الهرم وحتى الأجيال الجديدة من الشباب لمستقبل مختلف، تلك الأجيال التي نشأت في ظل مناخ العولمة والانفتاح الاقتصادي الجديد، وتطمح إلى دخول سوق العمل بعقلية مدنية تجمع بين الاعتزاز بالإسلام المتسامح ومسايرة روح العصر ورفع شعار «الوطن أولاً»، هذه الروح يجب استثمارها من قبل النخب الثقافية عبر تفعيل دور المؤسسات الثقافية والأندية الأدبية والأنشطة المدرسية وتعزيز لغة الحوار والإصرار عليها والصبر على الأذى في سبيل ترسيخ «ثقافة متسامحة» بهدف تحجيم «الثقافة المأزومة» التي لا يمكن لها أن تعيش في ظل هذه التحولات الكبرى التي يعيشها العالم، وأيضاً في ظل التحولات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية التي تسعى إلى تعزيز الهوية الدينية بعيداً عن رهانات التطرف والتشدد. تبدو الفرصة الآن مواتية أمام التيار المعتدل في الخطاب الإسلامي لتدشين ثقافة دينية متسامحة، فعليهم يقع الدور الأكبر، وذلك من خلال تعميم فقه للنقد وتربية على الاستماع للرأي الآخر، وهي قضايا لا يمكن أن تفعل في مجتمعاتنا دون أن تتبناها المؤسسات التربوية والإعلامية، بعيداً عن الحساسية المفرطة والتخوف المرضي من تسور غير المؤهلين، خصوصاً مع هذا الانفتاح الكبير الذي نشهده في وسائل الاتصال والثورة المعلوماتية والعولمة الثقافية، التي أصبحت قدراً لا يسعنا إلا التفاعل معه وفق مبادئنا، دون أن نختبئ منه وندعه يشكلنا كما يشاء ووفق مصالحه ورغباته.
الإشكالية الآن لا تأتي من خطابات التطرف فحسب، بل جرت في ساقية استهداف السعودية ودول الخليج وأمن المنطقة، مياه عكرة متعددة المنابع، تبدأ من أحلاف تقويض الاستقرار بقيادة حلف الإسلام السياسي الذي تقوده تركيا وقطر وتسانده إيران كجزء من تصدير ثورتها التي لا تختلف في طائفيتها عن التطابق في أهدافها مع مشروع إحلال الإسلام الثوري بشقيه السني والشيعي بديلاً للإسلام المتصالح مع العصر.
كانت ولا تزال الحرب النفسية من أهم المكونات الرئيسية لتمرير المشاريع السياسية في أوقات الأزمة، وذلك من خلال استغلال مناخ الحروب والنزاعات المسلحة وحالة الاحتجاج العام، بهدف الوصول إلى تسوية سلمية عبر أداة التصعيد، باعتبار أن هذا الطرف المفاوض يتحدث من موقع القوة، هذا بالضبط ما تحاول إيران وحلفاؤها النجاح في إنجازه هذه الأيام منذ اليوم الأول لمأساة غزة، وحتى تتويج هذا المشروع في قمة غزة التي كانت بداية إعلان نهج جديد في المقاومة واستبدال المساومة بها، لكن، وللأسف الشديد، ليس عبر أوراق تفاوضية أو ضغوط سياسية، ولكن بأرقام ضحايا وجثث مدنيين وأبرياء!
وبإزاء الخطاب التقويضي، هناك الخطاب الشعاراتي القيمي الذي تدشنه قوى غربية مناهضة لاستقرار الملكيات باعتبارها نقيضاً للديمقراطية، وهو بحث تجب إعادة تأصيله في التفريق بين القيم والآليات، بين الممارسة التي تنتج الرفاه وإن لم تحظَ برضا الديمقراطية المفهوم الذي يعيش تحولاً هائلاً في بيئاته المحلية، والممارسات التي أوصلت أكثر جماعات الإسلام السياسي شمولية وتطرفاً إلى الحكم عبر غزوات صناديق الانتخابات ثم لم تحقق إلا تجريف مفهوم الدولة.
إن أبرز مكامن العطل في الخطاب الشعاراتي تكمن في استعداء المجتمع الدولي ومحاولة القفز على كل القوانين والمرتكزات الأساسية لقضايا حقوق الإنسان وتنظيم النزاعات الدولية، هذا الاستعداء أصبح صرعة سياسية وحلاً جاهزاً لترحيل مشكلات الداخل، وأداة فاعلة لإلهاء عقل الشارع العربي عن الأسئلة الحقيقية حول التنمية والحقوق الأولية للمواطنة، والسؤال المُلح الذي ينتاب العقلاء في أحوال كهذه: لماذا نكون الأكثر حماساً وانفعالاً في الأزمات، ثم حين تهدأ الرياح نكتشف أننا لم نحصد من ذلك الضجيج سوى الفشل والاتهامات المتبادلة والوضع المتردي؟!
تحاول الذهنية الغربية السياسية للأسف استغلال أزماتها وإدارتها وتوظيفها بشكل يعود عليها بما لم تحلم به من غطاء ومبررات لدى المجتمع الدولي، بحيث يتحول الحدث الهامشي في مفهومنا السياسي إلى نقطة تحول تاريخية على المستويات المختلفة، وبالأخص المستوى السياسي والأمني والاقتصادي في الداخل والخارج.
إدارة الأزمة أمر غائب عن الذهنية السائدة لكثير من الحكومات والأحزاب والجماعات الثورية، أو التي تتبنى شعارات عابرة للقارات، بينما تقف مشلولة وعاجزة حتى عن التلويح بشيء من تلك الشعارات التي تبنتها... والجماهير بدورها باتت رهينة التفكير الرغبوي الحالم الذي تحاول من خلاله مداواة قسوة واقعها الحياتي الخاص، متجاهلة أن أحوالها المتردية جزء من قسوة واقعها العام ومحدودية إمكاناته، ومن هنا أصبح «البطل الحنجوري» مطلباً شعبياً يضطر كثيراً من وسائل الإعلام إلى خلق نجوم من هذا النوع، وما أكثرهم في شريحة عريضة من المثقفين العرب الذين لديهم حساباتهم الخاصة، بل وأزمتهم الشخصية مع دول بعينها.