صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«المنامة»... الحضور ضروري والتخلف هروب من مواجهة مصيرية!

بغضِّ النظر عمّا سيكون عليه مؤتمر البحرين، الذي سينعقد في نهايات الشهر المقبل والذي من المفترض ألّا يقاطعه الإخوان الفلسطينيون تحديداً، فهم أصحاب قضية مقدسة ستكون هي المحور الرئيسي في هذا المؤتمر وهذا يعني أن عليهم بقيادة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) ألا يغيبوا إطلاقاً عن مواجهة ضرورية ستكون ملتهبة وحامية، مما يعني أن عليهم أن يجلسوا أمام جاريد كوشنر على «ركْبة ونصف»، كما يقال، وأن يقولوا كل ما يريدون قوله وأن يُسمعوا العالم كله وجهة نظرهم التي هي تأكيد حقوقهم التي أقرّتها الأمم المتحدة ومعظم دول الكون بأسره وفي مقدمتها إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إنه لا يجوز الغياب عن مواجهة كهذه، ستكون قاسية وحامية ومفصليّة سيشهدها مؤتمر البحرين، فعدم الحضور وترك الساحة للأميركيين يعني ومهما سيقت من أجله الأعذار أنه سيفهم وسيعني للأصدقاء قبل الأعداء أنه هروب من المواجهة وأنه إدارة للظهر في لحظة تاريخية حاسمة إلى الحقوق الفلسطينية المشروعة وأنه تشجيع للعرب «المؤلّفة قلوبهم» على التمادي وأكثر من اللزوم على قضية مقدسة الكل يعترف بأنها القضية التي لا أهم منها قضية.
كان «الأخ» محمود عباس، الأشجع بين رفاقه عندما ذهب إلى مفاوضات أوسلو وهو يعرف أنه سيخوض معركة أقسى وأخطر ألف مرة من أي معركة عسكرية خاضتها المقاومة الفلسطينية، فهو كان يعرف أن الغياب عن هكذا مواجهة هو كإدارة الظهر والهروب من أي معركة مع الإسرائيليين، فصاحب الحق يجب ألا يتردّد في مواجهة عدوه سياسياً كما يواجهه عسكرياً، ولذلك فقد بقي هو نفسه، يذهب إلى مفاوضات مع «العدو الصهيوني» كان يعرف سلفاً أنها فاشلة لكنه ومع ذلك كان يذهب إليها ليؤكد للعالم، الصديق والعدو، أن الفلسطينيين «غير عدميين» وأنهم يريدون سلاماً حقيقياً وعلى استعداد للذهاب إلى آخر الدنيا لانتزاع المتوفر من حقوقهم المشروعة... فما العيب في هذا؟! ولماذا عدم الذهاب إلى المنامة وخوض معركة سياسية سيتابع وقائعها كل سكان الكرة الأرضية؟!
عندما ذهب (أبو مازن) إلى أوسلو كان يعرف أنه ذاهب إلى معركة ستكون قاسية وقد تكون فاشلة لكنه ذهب لأنه لا يمثلُ نفسه بل يمثلُ شعباً يستحق أن يحرق قادته الأساسيون أنفسهم سياسياً ليقولوا للصديق والعدو وللعالم بأسره إنهم ليسوا «ضيّاعي فرص»، وإن انتزاع ولو جزء من فلسطين من الإسرائيليين يستحق المغامرة، وإن من يقود شعباً كالشعب الفلسطيني عليه أن يغامر، ويقيناً إن هذا كله يعني أن مؤتمر البحرين هذا سيكون مواجهة صعبة وقاسية، وأنه على الفلسطينيين أن يخوضوا غمارها بكل شجاعة كما خاضوا كل معاركهم السابقة من معركة «الكرامة» إلى المعركة مع الأميركيين خلال حصار بيروت إلى معركة «فاس الأولى» و«فاس الثانية»... وقبلهما معركة قمة قصر الصنوبر السياسية في الجزائر.
كان الخروج من بيروت في أغسطس (آب) عام 1982 بعد صمود بطولي لنحو ثلاثة أشهر قد تحوّل إلى انتصار سياسي في قمة «فاس» الثانية، التي إذا أردنا قول الحقيقة بعد كل هذه السنوات الطويلة فإننا سنقول إنها كانت قمة الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، وهنا فإن المعروف أن الرئيس الأميركي رونالد ريغان كان قد أطلق تصريحاً فيه الكثير من الغموض بالنسبة إلى حل القضية كان موجهاً إلى (أبو عمار) بينما كانت «سفينته» تصارع أمواج البحر المتوسط متجهةً إلى أثينا وكنت أنا أحد الذين رافقوه في هذه الرحلة ومنها إلى تونس ثم إلى المغرب لحضور القمة العربية آنفة الذكر.
ولعلّ ما فاجأ كل الذين رافقوا أبو عمار في رحلة الخروج من بيروت، والذهاب إلى مستقبل كان فيه الكثير من الغموض والحيرة والحسابات التشاؤمية، أنه بادر إلى الرد على الرئيس الأميركي بتصريح فيه الكثير من الإيجابية قال فيه «إنه باسم الشعب الفلسطيني يرحب بهذا التصريح وإنه يعوّل عليه وإنه سيكون محور نقاش رئيسي في قمة فاس العربية الثانية». ويقيناً أن هذا الرد كان يجب أن يكون لأن وضع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات كان كما هو وضع الرئيس محمود عباس الآن.
إنّ المعروف، وهذا لا ينكره إلاّ جاحدٌ أو مغرضٌ أو غير صاحب ضمير حي، أن (أبو مازن)، كان دائماً وأبداً خلال هذه المسيرة الطويلة رجل المهمات الصعبة، وأنه كان أول من انضمّ إلى (أبو عمار) بعد عودته إلى فلسطين في عام 1994، وأنه تغلب على صعاب كثيرة في البدايات لكنه ما لبث أن أخذ موقعه كثاني أصحاب القرار في القيادة الفلسطينية بعد ياسر عرفات، رحمه الله.
ثم وعلى ما أظن، لا بل أعتقد جازماً، أن (أبو مازن) كان يعرف أن زيارة (أبو عمار) لطهران بعد عودة الخميني من «نوفل لاشاتوه» في فرنسا كان هدفها إبقاء المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني لفترة عامين مقبلين، فمفاوضات الحل السلمي مع الإسرائيليين كانت قد بدأت كاتصالات جانبية، وكان الرئيس السوري السابق حافظ الأسد قد مارس ضغطاً هائلاً على الإمام موسى الصدر لإعلان مقاومة لبنانية جنوبية بديلاً للمقاومة الفلسطينية، لكنّ رفْضه، رحمه الله، كان قاطعاً وحاسماً فكانت تصفيته المرعبة في عام 1978 خلال زيارة لـ«جماهيرية» القذافي ومعه اثنان من زملائه من الطائفة الشيعية الكريمة التي كانت في ذلك الوقت رديفاً رئيسياً لحركة «فتح» ولثورة الشعب الفلسطيني.
وعليه فإن المعروف أن (أبو مازن) هو الأكثر «براغماتية» في القيادة الفلسطينية كلها وبمن فيها زميله ورفيق دربه الطويل (أبو عمار) رحمه الله، وأنه كان دائماً وأبداً ضد المواقف السلبية. ولذلك فإن المؤكد أن الرئيس الفلسطيني ورغم «وسوسات» و«مزايدات» بعض المحيطين به فإنه لن يضيّع هذه الفرصة، وإنه سيذهب إلى مؤتمر البحرين ليخوض هذه المعركة التي خاض مثلها وأصعب منها معارك كثيرة.
إن الوحيد القادر على مواجهة جاريد كوشنر هو الرئيس محمود عباس لأنه صاحب قضية مقدسة ولأنه كان وعلى مدى سنوات طويلة قد خاض معارك كثيرة أصعب وأكثر تعقيداً من هذه المعركة، فـ«أبو مازن» ممثل لقضية عادلة تحظى بدعم وتأييد العرب كلهم والمسلمين بأسرهم ومعظم دول العالم الكبرى المؤثرة، ثم إن هناك قرار الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ولهذا فإن كل النصائح التي تطالب القيادة الفلسطينية بمقاطعة مؤتمر البحرين يجب أن يكون مصيرها سلة المهملات، مع كل التقدير والاحترام لأصحابها... فهذه معركة يجب الذهاب إلى ميدانها ويجب خوضها، فإدارة الظهر لها لن تكون إدارة ظهر لـ«جاريد كوشنر» بل إدارة الظهر لقضية عادلة لا يمكن ولا يجوز إدارة الظهر لها وأيضاً ولا التنازل عنها وحتى إن كانت المغريات ليست أربعين مليار دولار وفقط وإنما كل أموال ودولارات الكرة الأرضية!