د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

السعودية ودرس في التسامح

جهيمان الذي اقتحم الحرم المكي، وقام بالاعتصام المسلح وإغلاق المسجد الحرام بأسلحة مخبأة في نعوش أدخلت للحرم بحجة الصلاة عليها، تسبب بمقتل العشرات وإحداث فتنة غير مسبوقة، قبل أربعين عاماً، وأفسد على المعتمرين عمرتهم، واحتجز العشرات من الرجال والشيوخ والنساء والعجائز والأطفال، مستغلاً حرمة المكان، حيث لم تقتحمه قوات الأمن السعودية إلا بعد أخذ فتوى من كبار العلماء، لإخراج جهيمان وجماعته الضالة من مخبئهم بين جدران الحرم ومآذنه.
جهيمان الذي تزعَّم هذا العمل الدنيء عام 1979، في غرّة محرّم من عام 1400 من الهجرة، خرق جميع الأعراف والقوانين، في عمل لم يسبقه إلى سوئه سوى القرامطة، عندما قتلوا حجاج بيت الله، ونهبوا الحجر الأسود، وعطلوا مناسك الحج لعشرات السنين.
الموضوع الذي لفت نظري ليس سوء فعلة جهيمان وضلال فكره ومنهجه الأمر الذي قد يحدث في أماكن كثيرة بسبب تردي التعليم، ولكن ما لفت نظري هو التسامح الكبير الذي حدث مع عائلة جهيمان، وهو أمر نادر الحدوث في بلدان كثيرة، فكثيراً ما كان يؤخذ الأبناء بجريرة الآباء، ويضرسون الحصرم عناء ما فعله آباؤهم، ولكن الأمر كان مختلفاً مع أبناء جهيمان الذين هم بين عميد في الحرس الوطني، ومهندس حامل لشهادة الدكتوراه وآخر موظف مرموق، بالإضافة إلى اثنتين من الإناث، أكملوا تعليمهم جميعاً ونالوا حقوقهم من دون أي صعوبات أو تضييق من السلطات السعودية، بل ويعيشون حياة طبيعية، تؤكد أن سياسة المملكة العربية السعودية تنطلق من مبادئ وتعاليم الدين الحنيف، الذي هو دستور المملكة ومنهج حكامها.
القصاص من جهيمان، وجماعته الضالة لجرمهم الكبير، لم يأخذ أبناء وأقارب جهيمان بجريرة والدهم، بل نالوا قسطاً وافراً من العلم، وهذا يؤكد أن المملكة العربية السعودية وولاة الأمر فيها والقائمين عليها وعلى شؤونها وأمنها، يتبعون شرع الله في أن «لا تزر وازرة وزر أخرى» ولا يورث الذنب والجريمة عندهم، ولا يقرون منهج العقاب الجماعي، وهو السلوك الذي كان شائعاً في بلدان كثيرة في سبعينات القرن الماضي، إلا أن المملكة العربية السعودية ضربت مثلاً رائعاً باتخاذ تعاليم الإسلام نهجاً لها خاصة في حرمة العقاب الجماعي وتوريث الذنب.
حادثة جهيمان وذنبه والتسامح مع أهله الذين يعيشون في المملكة حياة طبيعية ويعملون في وظائف مرموقة، ذكرتني بسياسة مختلفة تماماً نهجها نظام العقيد القذافي ضد معارضيه، حيث كان ذلك النظام يورث الذنب الأحفاد ويعاقب الأقارب بوسائله المتعددة.
وكذلك فعل صدام حسين عندما جرد أهالي معارضيه من حقوقهم حتى أحفادهم في زمن الديكتاتوريات العربية، بل حتى في زمن ما سمي «الربيع العربي مارس تنظيم «الإخوان» الذي تصدر المشهد سياسة العقاب الجماعي لأهالي معارضيه، قبل أن يجري نبذه ويفتضح ويسقط.
المملكة العربية السعودية التي أسس بنيانها المؤسس الملك عبد العزيز، رحمه الله، على بنيان متين هو «العدل أساس الملك» وتنقلت ثقافته بين الأبناء كمنهج حكم، لتبقى حالة التعاطي السعودي مع أهل وأقارب جهيمان وجماعته مدرسة للأجيال القادمة على أن «وَكُلَ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»، وقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة»، وأن كل إنسان يحاسب على خطاياه هو، وليس على خطايا غيره، وهذا ما أثبتته المملكة العربية السعودية منذ عشرات السنين، وليست حادثة جهيمان الأمر الوحيد فقد سبقته حوادث كثيرة، لم يعاقب فيها سوى المخطئ.