ليونيد بيرشيدسكي
TT

الاستقطاب ينتصر في فرنسا

بإمكان الرئيس الفرنسي الزعم أنه قد أدى ما عليه بالكاد وصولاً إلى الانتخابات الفصلية. فبعد شهور من الاحتجاجات الشعبية على إصلاحاته الاقتصادية، وانعزاله الواضح عن الناس وعن مشكلاتهم، حل حزب ماكرون التقدمي المؤيد للاتحاد الأوروبي في المركز الثاني في انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت الأحد الماضي، بحصوله على نسبة 22 في المائة من الأصوات، فيما حلت خصمه مارين لوبن، المناهضة للاتحاد الأوروبي، في المركز الأول، بفارق ضئيل عن النسبة التي حصلت عليها عام 2014. لكن المفاجأة الأكبر تلك الليلة جاءت من حزب الخضر الذي احتل المركز الثالث.
الشيء اللافت هنا هو الأداء السيئ لأحزاب الوسط اليساري والوسط اليميني، حيث حققت مجتمعة نسبة 15 في المائة، وهي أعلى بنسبة ضئيلة من حزب الخضر. واللافت أيضاً هو أن سياسة الهوية قد حلت محل خطوط الصدع الاقتصادية لدى الناخب الفرنسي. لكن هذا لا يعني زلزالاً سياسياً كبيراً قصير المدى، فليس هناك ضغوط كبيرة على ماكرون ليقوم بتغييرات في حكومته، أو ليتخلى عن أجندته الإصلاحية، وسينتهي المطاف بالمشرعين الذي سيرسلهم إلى البرلمان الأوروبي كتروس في ماكينة كبيرة لبناء التحالفات، وستزداد الانقسامات حدة ورسوخاً على المدى البعيد.
قدمت الأحزاب الثلاثة الكبرى رؤى مختلفة تماماً لموقع أوروبا وفرنسا في البرلمان الأوروبي. فحزب لوبن لم يعد يريد التخلي عن اليورو، لكنه يحلم بالتخلص من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتمكين حكومات الدول من اختيار ما يريدونه من بروكسل، فهي معادية بقوة للهجرة، وتنحاز لمبدأ الاقتصاد القومي الذي يضع «فرنسا أولاً».
دافع حزب ماكرون عن مبدأ «المزيد لأوروبا»، لكنه مناهض أيضا للوبن، وهو تقدمي وداعم للبيئة، ويتودد للمعنيين بشؤون البيئة أكثر مما يتقرب من الطبقة العاملة. وحزب الخضر هو حامل لواء المثالية غير المادية التي تبناها في السابق اليسار الفرنسي، والتي تلقى تأييداً كبيراً بين فئة الناخبين الشباب.
توحي كل هذه الحشود بأن الناخبين الفرنسيين لم يكونوا فقط يصوتون على القضايا الاقتصادية، أو على سجل ماكرون كإصلاحي. فبحسب استطلاع للرأي العام أجراه معهد «كانتر» قبل الانتخابات، كانت احتجاجات السترات الصفراء و«بريكست» في أسفل قائمة اهتمامات الناخبين، مقارنة بقضايا مثل التغيرات المناخية والهجرة. فالأداء الضعيف لزعيم تيار يسار الوسط جان لوك ميلانشون، ومساندته لمحتجي السترات الصفراء، وازدراؤه لإصلاحات ماكرون الاقتصادية، كانت سبباً في حصول حزبه على 7 في المائة من الأصوات، وهي نتيجة أيضاً لتقريعه للأغنياء، وهو ما جعل لوبن تتفوق عليه في حروب الهوية.
كانت سياسة الجمهورين من حزب الوسط المعتدل تهدف إلى إعادة تقديم أنفسهم بوصفهم حزب «القيم»، بالمغالاة في تقليد لوبن، والحديث عن الجذور والهوية الأوروبية. وفي هذا السياق، قالت لوبن تعليقاً على خصومها: «منذ تبنوا أفكاري، واعتبروها من بنات أفكارهم، أعطوني ضعف مساحة الوقت المسموح لي للحديث». فقد جاءوا خلف حزب الخضر. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي بلغ فيه الدين العام 100 في المائة، فإن الجمهوريين معروفون أكثر بمواقفهم المحافظة على القضايا الاجتماعية أكثر من مواقفهم تجاه أي موقف مالي.
إن حركة ماكرون التي جلبت الخراب على أحزابه، بأن التقطت بعضاً من تيار اليمن وبعضاً من اليسار، قد استطاعت تحاشي خيبة الأمل بصعوبة، ولا تزال تشكل قوة سياسية على الساحة.
ولقد استطاعت لوبن، التي قدمت نفسها كبديل لكل شيء يرمز إليه ماكرون، أن تعزز من موقفها المعارض، وتمكن حزب الخضر من اجتذاب جيل جديد من الناخبين.
لم يكن تأثير الاقتصاد كبيراً في هذه الانتخابات، ولعل ذلك يمثل انتصاراً في حد ذاته لماكرون. لكن لو أن انتكاسة أخرى حدثت، أو أن إصلاحات ماكرون فشلت في أن تؤتي ثمارها، حينها سيجرى استقطاب الناخبين، وستكون لهم كلمتهم.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»