نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

قمم مكة ومواجهة «الهوبرة» الإيرانية

تاريخ القمم العربية والإسلامية والخليجية يسمح لمن يريد تشتيت انتباه المتابع عن أهمية قمم مكة الثلاث أن يفعل ذلك. قليلة هي المرات التي ارتقت فيها أعمال هذه القمم إلى ما فوق البروتوكول، والكلام المغلف بطبقات سميكة من التورية، وأنصاف المواقف.
التاريخ الثقيل هذا دعامة صلبة للمشككين. يزيدها صلابة التدفق المعلوماتي اليومي وتشابك الأحداث وعدم قدرة المتابع على التدقيق والتفريق. أما الانقسام السياسي الحاد فيعكس نفسه انقساماً إعلامياً، جاعلاً من المتلقين كائنات تعيش داخل فقاعات إخبارية، وغرف صدى يتردد فيها ما يؤمن به المتلقي سلفاً ويناسب هواه.
تستحق قمم مكة الثلاث، القمتان العربية والخليجية الطارئتان، والقمة الإسلامية المنعقدة في موعدها، توقفاً من نوع مختلف. فهي تنعقد في لحظة سياسية وأمنية مفصلية في المنطقة لا تقل أهمية عن لحظة غزو صدام حسين للكويت، وقمة القاهرة التي تلت الاحتلال صيف 1990، لينتج عنها وبناء على طلب المملكة العربية السعودية قرار إرسال قوّة عربية مشتركة إلى الخليج، شكلت أول نواة للتحالف العسكري العربي - الدولي لمواجهة العراق في حرب الخليج الثانية.
بيانات القمم الثلاث خلت من «الحلول اللغوية» للتباينات العربية والإسلامية التي تنشأ في العادة حيال العناوين المطروحة للنقاش والتباحث. وهي وضعت المشكلة الإيرانية على الطاولة بأوضح العبارات الممكنة، ووصفت علاقاتها بالميليشيات الفاعلة في المنطقة، كميليشيا «حزب الله» والحوثي، توصيفاً لا يحمل أي اختزال أو مواربة، مطالبة إياها بوقف «دعم الجماعات والميليشيات الإرهابية».
السؤال وجيه حيال الأثر العملي لقمم دبلوماسية وسياسية وبيانات ختامية في مواجهة العنف المسلح للميليشيات التي تخوض حرباً إيرانية بالوكالة ضد أمن الخليج والمنطقة. لكنه سؤال ينهض على الفارق الجوهري بين السعودية التي دعت للقمم وأدارتها بكفاءة سياسية عالية وبين إيران، الواقعة دوماً في المنطقة الرمادية بين الدولة واللادولة.
ففي مقابل 200 ميليشيا تدير عبرها إيران سياساتها في المنطقة، تجدد السعودية عبر مشهدية القمم الثلاث التأكيد أنها دولة طبيعية وفاعلة وقوية وقائدة لعمل سياسي معقد ضمن منظومة الدول، ملتزمة القواعد والقوانين الحاكمة للعلاقات الدولية.
وهذا مهم الآن في مواجهة «الهوبرة» الإيرانية، والصراخ الكثير الصادر من طهران عن دعم نظام الملالي «لقضايا الشعوب»، إذ إن المدخل إلى الشعوب هي دولها وحكوماتها الشرعية أياً كان الموقف منها.
وقد نجحت السعودية في جلب الجميع إلى مساحة الإجماع على رفض السياسات الإيرانية، الذي لم يخرقه إلا تمايز عراقي مفهوم الأسباب، وتراجع مهين للذات أقدمت عليه قطر بعد يوم من انتهاء أعمال القمم وصدور بياناتها الثلاث، رغم مشاركة الدوحة عبر رئيس وزرائها.
في المقابل حسناً فعل لبنان، بعدم الغرق في كذبة النأي بالنفس، وانحاز بشجاعة غير مشروطة إلى موقف الإجماع العربي والإسلامي ضد السياسات الإيرانية، التي هو أكثر من يعاني منها، منذ نحو أربعين عاماً.
لم يكن بوسع دولة تريد أن تحافظ على احترامها لذاتها أو احترام المجتمع الدولي لها، أن تنحاز في خلال عراضة دبلوماسية ضخمة توزعت على قمم ثلاث أن تعلن جهاراً انحيازها لمنطق الميليشيات الإيرانية في مقابل منطق الدول التي تواجه إيران وميليشياتها.
أهمية هذا الإجماع، السياسية والإعلامية، أنه يعطل نكتة سمجة، ما فتئت إيران تروج لها، وتفيد بأن إيران في موقع المعتدى عليها، وأنها صاحبة حقوق مهضومة، وأن كل الطعون الصادرة عن دول المنطقة بحقها ليست سوى تغطية لتآمر هذه الدول على إيران وحقوقها.
فلا مبالغات حول حجم الاختراق الإيراني وخطره على أمن المنطقة وأمن العالم، وهو ما رأى ضيوف المملكة وأعضاء الوفود المشاركة أدلة مادية عليه كانت متوفرة لكل من دخل وخرج من القاعات المستضيفة لأعمال القمم، على شكل بقايا صواريخ وبقايا طائرات من دون طيار وغيرها من المخلفات المادية للاعتداءات الإيرانية.
ما يهم أيضاً، أن هذه القمم الثلاث شكلت منبراً للسعودية والإمارات ومصر وغيرها من الدول لطرح مشكلاتها مع إيران أمام الرأي العام الدولي وأمام الحكومات المعنية التي سيتابع سفراؤها عبر تقاريرهم تقديم وجهة النظر الصادرة عن القمم الثلاث لمن يعنيهم الأمر. فالحقيقة أنه لدينا مشكلة جدية في واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية الرئيسية، لا سيما مع الإعلام، وغالبه ليبرالي، ناتجة عن كثافة التشويش على طبيعة المشكل بين إيران والمنطقة، وجعله بخلاف حقيقته، خلافاً حول كل شيء ما عدا أسبابه المباشرة.
المفارقة أن الدياسبورا الإيرانية القومية، التي تركت بلادها تحديداً بسبب سياسات نظام الخميني، والمنتشرة في الإعلام الأميركي والأوروبي ومراكز الأبحاث الدولية، باتت من حيث يريد بعضها أو لا يريد، أداة ترويج بيد النظام. فهي مدفوعة بخوفها من نتائج أي حرب محتملة على إيران، تجتهد لتقديم الأسباب الموجبة للحوار مع النظام حتى وإن كان بعضها يخاصمه على المستوى الآيديولوجي والسياسي. أما النظام فيستعمل، هذه الأصوات، معتمداً على أنها «معارضة» له، للطعن في عقلانية سياسات واشنطن، عبر «إنتلجانسيا إيرانية غربية»، وتصويرها أنها مجرد سياسات واقعة في أسر المصالح السعودية والخليجية.
قمم مكة الثلاث تساهم في كسر هذا الفخ، لكن البناء عليها ضروري أبعد من القمم وما بعدها.