مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

صحوة العبادي

... وأخيراً، أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق رئيس المكتب السياسي لحزب «الدعوة» الإسلامي الدكتور حيدر العبادي، تخليه عن جميع مناصبه الحزبية، مقدماً استقالته على قاعدة فك الارتباط بينه وبين قيادة «الدعوة» محتفظاً بالتزامه الحزبي، داعياً إلى إجراء مراجعة نقدية وتجديد في هيكلية «الدعوة». ومبرراً خطوته بالرغبة في فتح الطريق أمام القيادات الشابة من أجل ضخ دماء جديدة تتولى مسؤولية إعادة النهوض بـ«الدعوة» بعد مرحلة التعثر التي أصابته نتيجة خسارته للسلطة وفقدانه للامتيازات التي مكّنته سابقاً من التغلغل داخل أجهزة الدولة وإداراتها وتنفيذ عملية تمتين مكّنت الدعويين من السيطرة على مفاصل الدولة ما بعد 2003.
ففي رسالة الاستقالة خاطب العبادي الدعاة قائلاً: «ليست هناك تجارب سياسية مجتمعية معصومة، والمهم المراجعة والتصحيح، والأهم الإصرار على المواصلة بوعي وتخطيط والتزام وفق قواعد المسؤولية والجهوزية».
فعلى أعتاب المؤتمر العام لحزب «الدعوة» المتوقع انعقاده منتصف شهر يونيو (حزيران) الجاري، أربك حيدر العبادي المشهد: استقال ولم ينشق، نأى بنفسه عن سياسات الحزب فقطع الطريق على مخطط استبعاده الذي تخطط له مراكز القوى داخل «الدعوة» مدعومةً من طهران التي لم تعد ترى تطابقاً بين مواقفه السياسية والتزامات «الدعوة» الخارجية، خصوصا بعدما شن العبادي مؤخراً هجوماً لاذعاً على القيادات في «الحشد الشعبي» واتهمها بالاستيلاء على عقارات باهظة الثمن في بغداد ومدن عراقية أخرى وبأنهم أصبحوا أثرياء على حساب المال العام، وموقف العبادي المتصاعد من «الحشد» في لحظة الاحتدام الإيراني الأميركي في العراق دفع جهات في «الدعوة» مقربة من طهران إلى التشكيك في نيات العبادي واعتبارها جزءاً من مخطط لإضعاف الحكومة العراقية تقوده جهات خارجية حذّرت بغداد من خلال العبادي من الاصطفاف إلى جانب طهران والتضحية بالوضع العراقي الراهن.
عملياً أثبتت التجربة الحزبية العراقية في السلطة ما بعد 2003 أن «الدعوة» هو الحزب السياسي الشيعي الوحيد، وأن بقية الأطراف الشيعية لم تتعدَّ حالة التيارات المرتبطة بشخصيات سياسية تاريخية أو دينية، حيث نجح «الدعوة» في تقديم أكبر كادر حزبي تمكن من السيطرة على مفاصل الحكم في أثناء توليه السلطة منذ عام 2005 حتى 2018 من خلال ثلاثة شخصيات دعوية (إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي) ما دفع أطرافاً خارجية مؤثرة في العراق إلى تعزيز صلتها معه، خصوصاً واشنطن وطهران التي لم تجد بديلاً مقنعاً له في السلطة حتى الآن، قناعة جعلت القيادة الإيرانية، خصوصاً المعنية بالشأن العراقي، تعمل على إعادة ترميم الحزب وتهيئته للمرحلة المقبلة عبر تعزيز دور الأجنحة الأكثر قرباً منها بعدما فتحت استقالة العبادي من مناصبه وعزوفه عن تولي أي منصب جديد المجال لتوحيد صفوفه تحت قيادة جديدة متماسكة، قد يبرز فيها دور أكبر للشخصية التنظيمية الأقوى داخل «الدعوة» الدكتور طارق نجم، على حساب شخصيات أساسية مثل العبادي وحتى المالكي.
عودة طهران إلى الاستثمار في حزب «الدعوة» نتيجة لحسابات دقيقة فرضتها التوازنات السياسية الجديدة حيث واجهت صعوبة في إنتاج البديل المنظم الذي يمكن أن يؤمّن لحلفائها غطاءً سياسياً، وخصوصاً بعد أن تحول «الحشد الشعبي» إلى معضلة داخلية وخارجية لا يمكن أن يُسند إليه إدارة العراق وفقاً للشروط والحسابات الإيرانية كما أدارها «الدعوة»، لذلك تحوّل «الدعوة» إلى وكيلها السياسي شبه الحصري في العراق، وهي معنية في هذه المرحلة بإعادة هيكلة الحزب وتنقيته من الوجوه المتمردة التي شكّلت تهديداً ولو محدوداً لمصالحها، خصوصاً الوجوه التي طالبت بقيام سياسة عراقية خارجية مستقلة تعيد العراق إلى الخريطة السياسية الإقليمية والدولية والتي تزامنت مع صحوة الهوية الوطنية الشيعية وانفجار حساسياتها الاجتماعية والثقافية مع إيران التي باتت متهمة من قِبل البيئة الشيعية بممارسة سياسة الهيمنة على العراق.
عود على بدء، إلى صحوة العبادي المتأخرة التي أزعجت خصومه وأصدقاءه الذين انتظروها عشية الانتخابات التشريعية فأجّلها العبادي إلى عشية الانتخابات الحزبية، فحصر تأثيرها تنظيمياً بعدما كان الرهان أن يكون لاستقالته من الحزب تأثير وطني يمهّد الطريق أمامه إلى زعامة وطنية على مستوى العراق، وعن هذا غرّد الناشط العراقي والخبير في شؤون الإرهاب هشام الهاشمي قائلاً: «استقالة أو تنازل الدكتور حيدر العبادي عن مناصبه القيادية في حزب (الدعوة) جاءت في وقت (لا له ولا عليه)، تصفير مواقف ومسيرة سياسية جديدة، أتمنى له التوفيق». ولكن في هذا التوقيت هل إعادة الهيكلية تعوض الحزب حضوره الذي خسره بعد خروجه من السلطة، كما أن صحوة العبادي هل تعيد تأهيله لزعامة وطنية بعد أن خسر أبرز فرصه؟!