داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

حين يُقَهْقِع الباندا الصيني في روسيا

في عام 1971 دَعت الصين الشعبية تسعة لاعبين أميركيين لكرة تنس الطاولة لإجراء مباريات ودية مع لاعبين صينيين، لكسر الجليد بين الولايات المتحدة والصين في تلك الحقبة، حين كان يتزعم الصين الرئيس الراحل ماو تسي تونغ (توفي 1976) ويتزعم الولايات المتحدة الرئيس المعزول ريتشارد نيكسون (توفي 1994)، ومنذ ذلك التاريخ دخلت إلى موسوعة المصطلحات السياسية في العالم تسمية «دبلوماسية البينغ بونغ».
حين هبطت لاعبة كرة المنضدة الأميركية جودي هورفروست التي كان عمرها 15 عاماً في مطار بكين لم تكن تعرف عن جمهورية الصين أكثر من أنها دولة شيوعية، وكل سكانها متشابهو الأنوف، وفيها ملايين الدراجات الهوائية! وفعلاً أسهمت تلك المباريات الودية في تبريد العلاقات الساخنة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي في سنوات الحرب الباردة. إلى أن جاء الرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ فأزاح منضدة اللعبة الشهيرة جانباً وابتكر مصطلح «دبلوماسية الباندا» نسبةً إلى ذلك الحيوان الجميل الظريف الذي سحر العالم بوسامته وتصرفاته الودية الرقيقة مع زائري حدائق الحيوان الدولية. وكسب الباندا مزيداً من التعاطف الإنساني بعد شيوع معلومات مؤكدة عن أنه حيوان في طريقه للانقراض؛ فأفضل التقديرات المتفائلة تشير إلى أن أعداده المتبقية على كوكبنا تتراوح بين 1000 و2000 باندا من الجنسين، كلها تحمل الجنسية الصينية. والباندا، الذي تحول من فصيلة الحيوانات آكلة اللحوم إلى حيوانات آكلة الخيزران «البامبو»، صار رمزاً للبيئة الجميلة في العالم وقِبلة الاهتمام الأولى في حدائق الحيوان العالمية. وسجلت هذه الحدائق عدداً محدوداً من اعتداءات عمالقة الباندا على الزوار بسبب استفزازهم لها ودخول بعضهم إلى حظائرها. وعلى أي حال فإن الباندا دبّ وليس قطة! وللمعلومات فإن سعر الباندا الصغير، في حالة عرضه للبيع، لا يقل عن مليوني دولار!
ومناسبة هذا الحديث أن الرئيس الصيني بينغ حمل معه في زيارته الأخيرة لموسكو زوجاً من دببة الباندا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبل الزائرين المحبوبين بابتسامة عريضة واصفاً الهدية الثمينة بأنها «لفتة تدل على عمق الثقة والاحترام بين البلدين». وسيعيش الدبّان اللذان يحملان اسمي «رو يي» و«دينغ دينغ» خلال إقامتهما في حديقة حيوان موسكو لمدة 15 عاماً في إطار مشروع بحثي مشترك يعودان بعدها إلى بكين. والغريب أن الدبّين تعرف بعضهما على بعض لأول مرة حين وصلا إلى موسكو. وقالت قناة «روسيا اليوم» التلفزيونية إن تقليد إعارة دببة الباندا لدول أخرى كرمز للصداقة بدأ في الخمسينات من القرن الماضي في ذروة الحرب الباردة، وأهدت بكين 23 دبّاً خلال الفترة من عام 1957 إلى عام 1983 إلى 9 بلدان بما في ذلك الاتحاد السوفياتي السابق. إلا أنها توقفت بعد ذلك عن الإهداء لتحل محلها تجربة إجراء مشاريع بحثية مشتركة لحماية الحيوانات النادرة، وأصبح عدد الدول التي شملتها هذه التجربة في حدود عشرين دولة من ضمنها روسيا والولايات المتحدة.
ويكفي للتعبير عن سعادة بوتين بالدبّين الصغيرين أنه قال: «عندما نتحدث عن الباندا تظهر الابتسامات على وجوهنا»! ومن المؤكد أن الرئيس الروسي يعتبر نجاحه في الحصول على هذه الالتفاتة الصينية من أبرز «منجزاته» خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى جانب ما حققه طبعاً في حماية النظام السوري من السقوط! وللدول التي تطلب مشاركتها في حماية الباندا نقول إن الأمر ليس سهلاً، فقد احتاجت فنلندا وهولندا، وهما دولتان مسالمتان وليست بينهما وبين الصين أي مشكلات سياسية، إلى عشر سنوات (فنلندا) و16 عاماً (هولندا) للتفاوض على هذه الصفقة! بينما يسعى الرئيس الأميركي ترمب لعقد ما يسميها «صفقة القرن» بين فلسطين وإسرائيل خلال عام واحد بشروط إذعان فلسطيني لم تتعرض لمثلها ألمانيا واليابان بعد هزيمتيهما في الحرب العالمية الثانية.
لقد أضفت وداعة دُبَّي الباندا مناخاً مثالياً لدفع روسيا والصين إلى توقيع ثلاثين اتفاقاً، وهو «مستوى غير مسبوق» كما قال بوتين. وتعزز هذه الاتفاقيات التحالف غير الرسمي بين موقفي البلدين في اجتماعات مجلس الأمن الدولي خصوصاً في القضايا الساخنة مثل الأوضاع في سوريا وفنزويلا والبرنامج النووي الكوري الشمالي. الآن يتحدث البلدان عن «شراكة شاملة وتعاون استراتيجي»، وأول خطوط هذا السياق مواجهة «التوترات» مع واشنطن، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، وفي الأخص قضايا التبادل التجاري والرسوم والضرائب والعقوبات الأميركية. وحَرَصَ البلدان على الابتعاد عن الملفات الشائكة بينهما مثل قضايا الحدود المشتركة والخلافات المناطقية مع اليابان والفلبين وفيتنام وركّزا على التعاون الاقتصادي والتحالف السياسي في مجلس الأمن والتصدي للعقوبات الأميركية الشمولية.
عربياً، حاول الرئيس العراقي الراحل صدام حسين تطبيق «دبلوماسية الباندا» فأرسل في الثمانينات من القرن الماضي أكياساً كبيرة من الأرز العنبر العراقي الفاخر ذي الرائحة الذكية إلى عددٍ من الملوك والرؤساء العرب، من بينهم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، فأمر مبارك بتوزيع الأكياس على بعض كبار المسؤولين في القصر لأنه لا يحب تناول الأرز العنبر. وطبعاً لم يجرؤ أحد على إبلاغ صدام بما حدث. وما دمنا في هذه السيرة فقد حاول عديّ النجل الأكبر للرئيس العراقي، في التسعينات من القرن الماضي، شراء اثنين من دببة الباندا من الصين في إطار هوايته جمع الحيوانات والطيور مثل الأسود والصقور والنسور. لكن الصين اعتذرت بأن الباندا ليس للبيع. وحسناً فعلت لأن حديقة حيوانات الزوراء في بغداد كانت عاجزة في سنوات الحصار الاقتصادي عن تدبير أغذية لحيواناتها من أسود وزرافات وأسماك وطيور وقردة وحمير وحشية. وعانت تلك الحيوانات المسكينة من ويلات الجوع والرعب خلال أيام قصف بغداد في عامي 1991 و2003، ثم هلك معظمها وسرق اللصوص ما تبقى خلال الفوضى التي عمّت العراق في ظل الاحتلال الأميركي وما بعده.
بدأنا المقال بالحديث عن «الباندا» رسولاً للبيئة الجميلة، ويُستحسن أن نعود إليه. تُطلق على صوت الدببة باللغة العربية الفصحى كلمة «قهقاع» أو «قهقعة» من قهقع يُقهقع على وزن زقزق يزقزق، وشتان بين الكلمتين!