ليونيد بيرشيدسكي
TT

«الوسط اليساري» لا يزال بإمكانه الفوز في الانتخابات

كتب الكثيرون عن تدهور أحزاب الوسط اليسارية في أوروبا، في مواجهة هجوم شعبوي شديد. لكن هذا العام، فازت قوى من ذلك الطيف السياسي في الانتخابات في ثلاث دول، هي فنلندا وإسبانيا، ومؤخراً الدنمارك. لكن ما هو الدرس؟
يمكن للديمقراطيين الاجتماعيين أن يحتلوا الصدارة في البلدان التي يشعر فيها الناخبون بالقلق من أن مستوى الرفاهية قد تراجع أكثر مما ينبغي.
في الدنمارك، فاز الائتلاف اليساري، بقيادة حزب الديمقراطيين الاشتراكيين الذي تتزعمه ميت فريدركسون، بـ92 مقعداً من أصل 179 مقعداً في البرلمان، بسبب انهيار الدعم لحزب الشعب الدنماركي القومي، وفشل الوسط اليميني في الاستفادة من ذلك.
لم تفز ميت فريدركسون بسبب مهاجمتها للقوميين في القضايا الساخنة، مثل الهجرة. في الواقع، لقد دعم الديمقراطيون الاشتراكيون المنطوون تحت قياد فريدركسون مقترحات مثل «مشروع قانون المجوهرات» السيئ السمعة، الذي يتيح للحكومة سحب ممتلكات طالبي اللجوء لتغطية تكاليف دعمهم في أثناء السير في الإجراءات الخاصة بهم، كما أنها تفضل وضع حد أقصى لما تسميه «الهجرة غير الغربية» إلى بلادها.
تلك مواقف نادرة لحزب اليسار الأوروبي، لكن معظم التيار السياسي في الدنمارك تبنى تيار الوسط اليساري بإخلاص، لدرجة أن الناخبين باتوا لا يرون حاجة لدعم «حزب الشعب». إضافة إلى ذلك، فإن تدفق طالبي اللجوء قد خفت حدته منذ عام 2015، وأصبحت القضايا الأخرى موضع تركيز، مثل التدهور الواضح الآن لنظام الرفاهية في البلاد، في ظل تعاقب الحكومات الليبرالية، حيث شهدت الدولة التي كانت تنعم بالمساواة في السابق زيادة حادة في «عامل جيني»، وهو مقياس لعدم المساواة.
ومنذ حدوث الأزمة المالية، طبقت الدنمارك اختبارات أكثر صرامة على طالبي بدلات البطالة والمساعدة الاجتماعية، وأدى ذلك إلى خفضهم بمقدار الثلث تقريباً في السنوات السبع الماضية، لكنه أيضاً أدى إلى تراجع الشعور بالأمان الذي اعتاد الدنماركيون عليه.
قدمت ميت فريدركسون وعوداً بزيادة الضرائب على الأغنياء والشركات، وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم، وتوفير التقاعد المبكر لكل من عمل 40 عاماً، ودفعت أيضاً من أجل استجابة أقوى لحالة الطوارئ المناخية.
وفي فنلندا، فاز الديمقراطيون الاجتماعيون الذين نجحوا في تشكيل ائتلاف حاكم في أواخر الشهر الماضي، بعد ضمانهم التعددية في الانتخابات البرلمانية في أبريل (نيسان)، عقب تعهدهم بإنهاء برنامج التقشف السابق لحكومة اليمين الوسطي. ويعتزم الائتلاف، الذي يقوده أنتي رين زعيم الحزب المنتصر، زيادة الضرائب المفروضة على الكحول والتبغ والوقود، وتوسيع نطاق التعليم الإلزامي، وخفض الإنفاق على الجامعات، ورفع حد المعاشات التقاعدية الأدنى.
وكما هو الحال في الدنمارك، كان الناخبون الفنلنديون قلقين من تآكل ما يمكن أن يسميه الليبراليون الاقتصاديون «الدولة الحاضنة»، حيث يأمل رين الآن في توسيع نظام «الدولة الحاضنة»، دون زيادة الدين الوطني لفنلندا، وهو هدف يمكن تحقيقه إذا كان الاقتصاد ينمو بمعدل 2 في المائة سنوياً.
ويمكن للمرء أن يجادل بأن الناخبين الشماليين المدللين لديهم حساسية خاصة لأقل التخفيضات في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، وبأن عتبة التسامح المنخفضة لديهم تبقي تيار الوسط اليساري على قيد الحياة في البلدان التي اعتادت على أنظمة الضمان الاجتماعي الكبيرة. لكن بعد ذلك، فإن الإسبان ليسوا مدللين، ولذلك أعطوا الحزب الاشتراكي، الذي يتزعمه بيدرو سانشيز، تعددية قوية بدرجة كافية، لدرجة أنه بات يشعر بالراحة في إدارة حكومة أقلية إذا لزم الأمر.
وقد تعرض حزب الشعب اليميني الحاكم لسلسلة من فضائح الفساد أدت إلى ركوعه، وبلغت ذروتها بفقدان رئيس الوزراء ماريانو راخوي تصويتاً بالثقة العام الماضي. وفاز سانشيز بالانتخابات بوعده إنفاق المزيد، بعد زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 22 في المائة في وقت سابق من هذا العام.
ويضمن برنامج الاشتراكيين تعهدات تقليدية بزيادة الضرائب على الأثرياء والشركات، مثلما اقترح حزب الوسط واليمين المتطرف إجراء تخفيضات ضريبية للفئات الأقل. ويريد سانشيز أيضاً تعزيز تنظيم سوق العمل، بعد أن خففه راخوي، لمكافحة البطالة المرتفعة في إسبانيا عقب الأزمة المالية. وفي بلد يعمل فيه 26 في المائة من القوى العاملة بعقود مؤقتة، فمن المؤكد أن يكون لهذا الوتر الحساس تأثيره مع الناخبين.
الشيء الذي تتشارك فيه انتصارات أحزاب اليسار الوسطي هذا العام هو ضجر الناخبين من الحكومات التي لا تولي اهتماماً كافياً للأجندات الاجتماعية، سواء في الدنمارك وفنلندا، حيث التعاسة تبدو واضحة لأي تراجع مهما كان ضئيلاً، أو في إسبانيا، حيث يتحلى الناخبون بالصبر بشكل لا يصدق منذ الأزمة الاقتصادية العالمية. ولذلك يمكن لأحزاب اليسار الوسطي أن تقدم ما يكفي من تخفيض للضرائب والإنفاق لتكون محل جذب انتخابي.
إن هذا المؤشر يبعث على الأمل بالنسبة لأحزاب اليسار الوسطي في مناطق أخرى، خصوصاً الحزب الاشتراكي الديمقراطي المتعثر في ألمانيا. فعندما يكون معظم الناخبين سعداء بمستوياتهم المعيشية، لن يكون أمام الديمقراطيين الاجتماعيين سوى القليل لفعله لزيادة دعمهم، لكن لا ينبغي عليهم القلق بشأن ذلك. ومع هذا، قد يكون من المفيد إعطاء المزيد من الاهتمام بالقضايا البيئية، نظراً لتزايد أهميتها بالنسبة للناخبين.
إن التعرض للانكماش الدوري لسنوات، وإحراز تقدم ضئيل في القضايا الاجتماعية، من شأنه أن يفيد الاشتراكيين، حيث سيكون بمقدورهم تقديم بضاعتهم التي يجيدون عرضها، وهي المساواة والعدالة الاجتماعية.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»