فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

بين جعيط والأنصاري... التراث والتوفيق

يحرص المفكرون وهم يشتغلون على التراث ضمن معطيات المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية، على تقديم تطمينات للمجتمعات الإسلامية، يقولون إنها مهمة لجذب أكبر عددٍ من القراء المسلمين وتبديد هواجسهم، وإشراكهم في الورش البحثية، وإدماجهم ضمن مستجدات المفاهيم وأحدث المعالجات والرؤى، ولكن مع كل ذلك يبقى هاجس مصير التراث الذي بين أيدينا، لم ينكر نصر أبو زيد أنه أسرف في تقديم تطميناتٍ كثيرة لم تحمه من المحاكمة والافتراء والجور. وكذلك في كتب محمد أركون تعثر على براءات غير مبررة بين فصلٍ وآخر، لقد كان خائفاً أكثر مما يجب وهو يتجوّل بعدته المعرفية بين النصّ والآخر. المهم أن تلك التطمينات ليست مفيدة من الناحية العلمية، بل لا بد من الوضوح المعرفي، لأن التطمين في آخر المطاف هو خضوع لنظرية التبشير التنموي، ما يخرج المادة المعرفية عن سياقها، من حقّ المؤلف أن يعبر عن مشروعه من دون الاضطرار للدخول في دوامات الدفاع عن الذات ضد الآيديولوجيا المهيمنة. لذلك حالت التطمينات بين القارئ والإجابة عن الآلية التي يمكن بها التعامل مع التراث، وكأنها حيلة للإجابة عن السؤال الصعب.
هشام جعيط، عرف بوضوح بيانه، ولموع برهانه، في كتبه الكثيرة الثرية، لم يكن كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية»، طبع 1979، ضمن مشروعه الأكاديمي، وإنما مجموع محاضراتٍ وكتاباتٍ امتدت على مدى عشرين عاماً، وأمثال هذه الكتب تكون أفصح في العبارة، وأغدق في الإجابة عما يشغل المجال العام من المشروعات الضخمة. يقارب في الكتاب موضوع التراث والغرب، مما يفيد الاستشهاد به من الكتاب: «إن غلبة الجديد على القديم لا تتم فقط بحد السيف وإنما أيضاً بجاذبية الحضارة الجديدة، مادياً وفكرياً وروحياً. فإذا كان الغرب اليوم يمثل القيم الإنسانية - نظرياً على الأقل - وإذا كان هذا الغرب يعني العلم والفكر العميق والفن وكذلك التكنولوجيا، فالمسألة ليست كما قيل من قبل مسألة أخذ ما يصلح لنا، أو مسألة استرجاع قوتنا القديمة كما كانت في زمن الخلافة، بل مسألة بقاء في الوجود التاريخي».
تحدّث عن اليابان والصين والعالم الإسلامي: «اليابانيون لم يأخذوا عن الغربيين التقنية فقط بل وأيضاً وظاهريا على الأقل، الألقاب الفخرية والموسيقى والأدب والمعمار، بلا خجل وبلا تخوف على ذاتيتهم... حاول الصينيون الرجوع إلى الأصول، لكن ما دام الإصلاح هنا كما في العالم الإسلامي يطال الفكر فقط والسياسة دون النشاطات الأخرى في المجتمع، فمن غير الممكن أن يحصل تجديد جذري، وكانت الصين تحسّ بنفسها في قلب العالم كما أن الإسلام يشعر أنه دين الحقيقة، فهاتان الحضارتان مستهما أوروبا بضراوة كبيرة، بالقرب بالنسبة للإسلام، وطمعاً في خصوص الصين».
وبالانتقال من مقاربة جعيط حول الأصول والغرب، لا بد من الوقوف عند الرؤية التوفيقية، التي يمثلها بامتياز محمد جابر الأنصاري، الذي يصفه جورج طرابيشي بـ«المداور البارع للجدل الهيغلي». فكرته باختصار التي طرحها في كتابه «الفكر العربي وصراع الأضداد»: «الحضارة العربية الإسلامية هي الحضارة الأولى بين الحضارات التاريخية الكبرى التي جمعت ووفّقت للمرة الأولى في تاريخ البشرية بين العنصر الهلنستي الروماني (الأوروبي الغربي) والعنصر الفارسي - الهندي (الآسيوي الشرقي) في نسيج حضاري واحد، فكانت بهذا المعنى مشروعاً توفيقياً عالمياً، بالغ الضخامة والامتداد. وهو مشروع جامع صبّت فيه أيضاً الروافد التاريخية والحضارية والفلسفية والدينية لحضارات الشرق الأدنى القديم التي لم تخلُ هي الأخرى من محاولات توفيقية بين الدين والعقل، وبين الديانات السامية بتراثها الإبراهيمي، والفلسفة اليونانية بتراثها الأرسطي - الأفلاطوني، فضلاً عن العناصر المشرقية القديمة المتأصلة في المنطقة، من سومرية وبابلية وفرعونية وسورية وفينيقية بإرثها الديني والعلمي، والحضاري بعامة».
يعلق طرابيشي في كتابه «هرطقات» على هذا النص: «فنحن ننتمي هنا انتماء تاماً إلى تعريف صاحب أطروحة (الفكر العربي وصراع الأضداد) للتوفيقية بأنها ليست محض جمع تلفيقي بين المتناقضات بقدر ما هي ارتفاع مُبْدِع بصراع الأضداد إلى (مستوى المُنْدَمَج العضوي بصهر طرفيه في وحدة جديدة حيّة فاعلة)، فالحضارة العربية الإسلامية هي نموذج لحضارة توفيقية جدلية أفلحت في أن تستولد من الضدين (شيئاً جديداً يختلف عنهما معاً)».
بين جعيط والأنصاري، وبقية المفكرين مسافات من الاختلاف تبعاً للأرضية الفلسفية والتخصص البحثي الذي ينطلق منه كل مفكر، ولكن في آخر المطاف فإن تعدد تلك المقاربات يوضح أن البحث حول الأسس والسبل للتقدم.. اننا بحاجة إلى آفاق أخرى ومقاربات أكثر تجدداً تبعاً للتحولات التي يعيشها العرب والمسلمون، وهذه مهمة ليست سهلة وبخاصة بعد ضمور الأسئلة، والركون إلى الإحباط أو اليأس.