علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

القدس ويافا ومحور روما ـ برلين

مما رواه عباس خضر، عرفنا أن جريدة «أخبار اليوم». أو - بالأحرى - أن مصطفى أمين هو الذي أحدث النقلة الرأسمالية في الصحف والمجلات المصرية، وكذلك في المجلات الثقافية. هذه النقلة الرأسمالية هي أن يكون لكدّ كبار الأدباء الذهني (وتلك كانت الخطوة الأولى) سعر مالي عادل ومغرٍ، بغرض الترويج لمجلة «الاثنين»، ولاحقاً بغرض الترويج لجريدة «أخبار اليوم» ولمجلة «آخر ساعة»، ولتنافس جريدة «أخبار اليوم» جريدة «الأهرام»، العتيقة والعريقة، تنافسها في التوزيع والانتشار. هذه النقلة الرأسمالية التي أحدثها مصطفى أمين جاءت بعد اطلاعه عن كثب على طريقة العمل في الصحافة الأميركية في أثناء دراسته الجامعية والعليا في أميركا في مجال العلوم السياسية. طريقة العمل هذه أن هناك تثميناً مالياً للكتابة وللعمل الصحافي، لأنهما - بالمفهوم الرأسمالي - صنعة وحرفة وليسا مجرد هواية أو رسالة. وهذا عمل عظيم يُشكر الرجل عليه. لأسأل هنا: هل كان سيد قطب وصديقه الحميم عباس خضر - الذي كان من أدباء الظل - يريدان أن تكون الاستفادة المالية حكراً على ملّاك الصحف والمجلات الأسبوعية والمجلات الثقافية في مصر؟ وهل كانا يريدان أن يستمرّ ملاك الصحف والمجلات الأسبوعية في مصر في استكتاب كبار الكتاب مجاناً، وفي تشغيل الصحافيين إما مجاناً، وإما دفع رواتبهم على نحو غير منتظم، وإما دفعها بالتقسيط؟!
وهذه معلومات نعرف بعضها مما رواه عباس خضر، ونعرف بعضها الآخر مما رواه قبله بسنوات طويلة مصطفى أمين في سيرته «أميركا الضاحكة»، ومحمد العزب موسى في سيرته «طرائف من الصحافة».
لو كان سيد قطب من كبار الكتاب في أربعينات القرن الماضي الذين استقطبهم مصطفى أمين للكتابة في مجلة «الاثنين» أو للكتابة أو للعمل الصحافي في جريدة «أخبار اليوم» أو في مجلة «آخر ساعة»، هل كان سيكتب ذلك المقال السفيه والمسف، الذي كان أيضاً مقالاً سفيهاً ومسفاً بحق مجلة «الاثنين» وجريدة «أخبار اليوم» ومجلة «آخر ساعة»؟!
إذا عدنا إلى مقال سيد قطب السفيه والمسف عن الأدباء الشيوخ الذي نشره بمجلة «العالم العربي»، بتاريخ 10 أبريل (نيسان) 1947، والذي تراوحت اتهاماته لهم فيه ما بين اتهام لمبادئهم واتجاهاتهم وذممهم وضمائرهم إزاء القضايا الوطنية والاجتماعية والإنسانية، واتهام لهم بتخليهم عن أمانتهم تجاه الأدباء الشبان والوطن والمجتمع والإنسانية والضمير الأدبي كله، واتهام لهم بالانصراف إلى الدعاية لقضية المستعمرين في الإذاعة والصحف والكتب، نجد أنه يحدد زمنياً حول ما يتهمهم به بالسنوات العشر الأخيرة، وبسنوات الحرب الأخيرة، وبسنوات بعدها.
السنوات العشر الأخيرة تعني أن اتهاماته لهم حصلت بداية من الشهر الرابع من عام 1937. وهذا التاريخ لا يمكنني التعرف إلى ما يومئ إليه. وعلى الأغلب أن هذا التحديد الزمني كان تجوّزاً منه في احتساب السنين أو عدّها، بدليل أنه نشر مقاله السفيه والمسف عقب انتهاء الحرب الأخيرة أو الحرب العالمية الثانية بسنة وستة أشهر وسبعة عشر يوماً، ومع ذلك قال: وسنوات بعدها!
أما سنوات الحرب الأخيرة، فيمكننا التعرف إلى ما يومئ إليه فيها، فهو يومئ - كما أسلفنا في مقالات سالفة - إلى كتابة بعض شيوخ الأدب في مجلة «الاثنين» ابتداء من عام 1942. وفي «أخبار اليوم» ابتداء من عام 1944. ويومئ أيضاً إلى مشاركة عباس محمود العقاد وأحمد عبد القادر المازني وعبد العزيز البشري وعبد الوهاب عزام ومحمد عوض محمد ابتداء من عام 1942 في إلقاء أحاديث إذاعية في دار الإذاعة الفلسطينية، أو «هنا القدس» التابعة لحكومة الانتداب البريطاني، التي كانت تذيع بثلاث لغات، هي: العربية والعبرية والإنجليزية. وإلى مشاركة العقاد والمازني وتوفيق الحكيم وطه حسين وأحمد أمين وحسن إبراهيم حسن في إلقاء أحاديث إذاعية في محطة الشرق الأدنى بيافا التابعة للجيش البريطاني. وكذلك إجراء مقابلات وتسجيل ندوات معهم في هذه الإذاعة.
وهؤلاء كانوا يتقاضون أجوراً مالية مجزية على الأحاديث الإذاعية التي يلقونها. وفوق كذلك إذا كانت الداعية لهم دار الإذاعة الفلسطينية بالقدس يسكّنون في فندق الملك داود. وهذا الفندق كان يسكنه الملوك ويسكنه زعماء بريطانيا الكبار وعلى رأسهم تشيرشل ويسكنه كبار الأغنياء ومشاهير الفنانين والفنانات، كما كانت تقام لأدباء مصر المدعوين حفلات التكريم التي كان يحضرها أعيان مدينة القدس. وإذا كانت الداعية لهم محطة الشرق الأدنى فيسكّنون بأجود فندق فيها، وكانت يافا ذلك الوقت مدينة عصرية وحاضرة ثقافية وفنية باهرة في أنشطتها الأدبية والسينمائية والمسرحية والغنائية والراقصة. وكانت الأندية الثقافية في هذه المدينة تدعو ضيوف محطة الشرق الأدنى المصريين لإلقاء محاضرات فيها.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن أحاديث أولئك الإذاعية في دار الإذاعة الفلسطينية وفي محطة الشرق الأدنى كانت مسموعة في شتى الأقطار العربية، فهاتان الإذاعتان كانتا أهم وأقوى إذاعتين في العالم العربي بل في منطقة الشرق الأوسط في ذلك الزمن. والإشارة أيضاً إلى أن أحاديثهم الإذاعية كانت تدور في فلك الأدب والثقافة والتاريخ والإسلام. الوحيدان اللذان تطرقا في أحاديثهما الإذاعية إلى السياسة العالمية وشؤون الحرب العالمية الثانية وماذا يجب أن يكون موقف العرب منها، هما العقاد والمازني، فلقد انتصر هذان الأديبان لديمقراطية دول الحلفاء، وحذّرا العرب من النازية بقوة ووضوح.
لتلك الأسباب الدنيوية التي عددتُها، رمى سيد قطب شيوخ الأدب بتهم شائنة ومشينة.
كنت في مقال «خفة ثورية وشطح ماركسي» تعليقاً على قول عباس خضر إنه كتب في مجلة «العالم العربي» عدة مقالات بعنوان «الأفكار العارية» نقد فيها كتابة المازني في «أخبار اليوم»، الذي - كما قال - كان أسرف في الإثارة الجنسية على نهج الجريدة التي اتخذت من كاتب أديب مثل المازني وسيلة لنشر الأفكار العارية إلى جانب صورة الأفخاذ العارية... قلتُ: راجعت أعداد مجلة «العالم العربي» في عهد رئاسة تحرير سيد قطب لها، من العدد الأول إلى العدد الرابع، صفحة صفحة، ثم وجدت أن عباس خضر واهم فيما قاله... وأقول الآن: إن هذه الكلمات بالنص وردت في مقال سيد قطب السفيه والمسف لكن من دون أن يسمي المازني أو أحداً آخر بعينه، وإنما قالها عن كل شيوخ الثقافة. وهذا يعني أن عباس خضر يخلط بين ما كتبه وما كتبه صديقه الحميم سيد قطب، ربما لأنهما كانا يرددان هذه الكلمات بينهما قبل أن يكتب الأخير مقاله السفيه والمسف الذي بسببه أُقيل من رئاسة تحرير تلك المجلة.
وكنت في مقال «من اتهام بالغفلة إلى اتهام بالخيانة العظمى» قد كشفتُ كذب سيد قطب حينما قال في مقدمة مقاله السفيه الذي نشره في مجلة «العالم العربي» بتاريخ 10 أبريل عام 1947 إنه لم يستجب لتلك الأصوات التي كانت تجاهر تارة، وتخافت تارة، عن بدء المعركة بين شباب الأدب وشيوخه، وإن طه حسين هو الذي تعجل بدأها. إذ ذكرت أنه سبق أن هاجم شيوخ الأدب في مقاله «على هامش النقد... غفلة النقد في مصر» المنشور في مجلة «الرسالة» بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) عام 1946.
وفي هذا المقال، سأكشف عن كذبة أخرى، وعن موقف متناقض لسيد قطب في قضية المعركة بين شيوخ الأدب وشبابه في مصر.
المعركة ما بين ما سُمي في مصر الأدباء الشيوخ والأدباء الشباب بدأت في عام 1934، وبدأها شيخان من شيوخ الأدب، هما طه حسين والعقاد. فبعد صدور ديوان علي محمود طه «الملاح التائه»، وديوان إبراهيم ناجي «وراء الغمام» نقد طه حسين الديوان الأول نقداً ليناً، ونقد الديوان الثاني نقداً قاسياً، وهجم العقاد على الديوان الثاني بعنف وشراسة. هذه المعركة التي كان المستهدف بها مدرسة «أبولّو»، التي كان يرعاها ويقودها أحمد زكي أبو شادي، دخل سيد قطب فيها، وكتب ستة مقالات في مجلة «الأسبوع» تحت عنوان «معركة النقد الأدبي ودوافعها الأصلية»، هاجم فيها بخشونة وعنف ديواني علي محمود طه وإبراهيم ناجي، والأدباء الشباب الذين لا ينصاعون لآراء الأدباء الشيوخ في الأدب، مع أنه كان أديباً شاباً مثلهم! هذه المعركة التي دخلها سيد قطب دخلها تقرباً وتزلفاً للعقاد، كما بيّن ذلك في وقتها أكثر من أديب شاب في مدرسة «أبولو».
يتحاشى الذين تناولوا سيد قطب بالدراسة إيراد نص مقال سيد قطب السفيه والمسف «بدء المعركة: الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ»، أو إيراد أوسخ ما فيه من فقرات. والذي شذ عنهم في هذا المتيّم بسيد قطب، صلاح عبد الفتاح الخالدي، فلقد أورد نصه كاملاً في كتابه «سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد» من باب التباهي والتفاخر به. وقال عن هذا المقال: «أحدث مقاله دوياً هائلاً، وضجة كبيرة بين الأدباء الشيوخ والأدباء الشبان، وفي مختلف الأوساط الأدبية في مصر والعالم العربي، كما امتدّ دويه وأثره إلى الأوساط الغربية»!!! ولأن الأخيرة (كما يقول المصريون) «واسعة أوي»، أضاف قائلاً (بتعليل تآمري ليسوغ تصديقه): «التي كانت ترصد حركة الأدب والفكر في مصر في ذلك الوقت»!
كل ما قاله غير صحيح؛ فالمجلة كانت حديثة النشوء، وكانت محدودة الانتشار في مصر وفي العالم العربي، ولم يكن للمقال أيّ دوي وأي أثر يُذكر حتى عند أدباء مصر الشيوخ والشبان. شاهده أن المقال امتدّ دويه وأثره إلى الأوساط الغربية هو قول سيد قطب في خاتمة رسالة أرسلها لصديقه أنور المعداوي من ولاية كلورادو بتاريخ 23 – 12 - 1949: «بهذه المناسبة: أتذكر مقال (بدء المعركة بين الشيوخ والشباب في العالم العربي)؟ كتب إليَّ أستاذ في جامعة هاليفاكس بكندا في هذه الأيام يستأذن في ترجمته للغة الإنجليزية ليُنشر في أميركا. وقد أجبتُه بالموافقة!».
هذا الأستاذ في جامعة هاليفاكس هو جون ب. هاردي المكلف من قبل المجلس الأميركي للجمعيات الثقافية بترجمة كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» إلى الإنجليزية. هذا الرجل مستشرق مغمور، وليس له صلة مباشرة بالحياة الأدبية والثقافية في مصر.
لأقل لكم ما حدث: سيد قطب في أثناء لقاءاته بهذا الرجل من أجل ترجمة كتابه مدح مقاله وبالغ في قيمته، وتمنى عليه أن يترجمه إلى الإنجليزية. ولأن هذا الرجل كان في مهمة حكومية رسمية، جامله فوعده بأنه سيقوم بترجمته إلى الإنجليزية.
لا أدري كيف صدق سيد قطب هذا الوعد، وهو أن هذا الرجل الذي يعلم أنه متعاون مع الاستخبارات الأميركية، سيترجم مقاله الذي انتصر فيه واقعاً وعملاً لمحور روما - برلين، وللنازية والفاشية في مواجهة دول الحلفاء، خصوصاً الدول الاستعمارية الديمقراطية؟! وللحديث بقية.