خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

المسواك الفلسطيني في فم إيران وتركيا

أصاب محمود الزهار الحقيقة حين قال إن «فلسطين مسواك»، وإن مشروع «حماس» أكبر كثيراً منها. وزير الخارجية السابق في حكومة «حماس» دلل على كلامه بضآلة حجمها الذي لا يظهر على الخريطة.
لكن هذا المسواك الضئيل، ذا القيمة الكبرى لملايين من جيران فلسطين، فضلاً عن أبنائها، تحول على أيدي «حماس» ومثيلاتها إلى سلعة ذات ثمن باهظ، مغرية بالمتاجرة في مزاد سياسي أقاموه طوال عقود، وساعدتهم - للأسف - دول كانت أكثر صدقاً وتقديماً للتضحيات من أجل «القضية». كيف؟
بخطأ استراتيجي بالغ، هو الربط بين ملفين لم يكن ينبغي لهما الارتباط. أولهما ملف العلاقة مع إسرائيل، بوصفه قراراً سياسياً استراتيجياً لكل دولة حسب واقعها ومصالحها. وثانيهما السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل.
لماذا أقول إنه خطأ استراتيجي؟
لأن تفسيره على أرض الواقع كالتالي: لن نقيم علاقات مع إسرائيل حتى التوصل إلى حل مُرضٍ للفلسطينيين. أي: لن نقيم علاقات مع إسرائيل حتى يسمح الفلسطينيون لنا. وبالتالي فإن الفلسطينيين هم الذين يتخذون نيابة عن تلك الدول القرار بشأن إقامة علاقات مع إسرائيل، وهو قرار مهم للغاية في ظل منطقة لها حسابات دقيقة في توازن القوى. الآن، يستطيع فصيل فلسطيني واحد أن يخرب الموضوع كله، وأن يتحكم في مفاتيح هذا الملف الاستراتيجي المهم لعدة دول مجتمعة.
تخريب الملف السيادي لتلك الدول يصب في مصلحة دول أخرى، قد تكون دولة تقيم علاقات مباشرة مع إسرائيل؛ لكنها على قلب «حماس» أحلى من العسل، مثل تركيا. أو يصب في مصلحة إيران، التي تعلم أن علاقات جيدة بين إسرائيل ودول الاعتدال العربي ستكون في غير صالح مشروعها.
في كلتا الحالتين، وظيفة المسواك الفلسطيني صارت تطييب رائحة الخبيث.
تركيا التوسعية البراغماتية، التي لم تقدم للفلسطينيين شيئاً، ولم تقطع علاقتها بإسرائيل منذ نشأتها، والعضو في حلف «الناتو» بالتزاماته تجاه دولة إسرائيل وأمنها، تقدم إلى المنطقة على أنها الأمل، ما دامت «حماس» و«الإخوان» راضين عنها.
إيران التوسعية الآيديولوجية، التي ناوشت ميليشياتها إسرائيل على الحدود، بينما خاضت الحرب في سوريا بالقلب والقليب، فقتلت من السوريين عشرات الآلاف، وأعانت على قتل مئات الآلاف، تقدم على أنها المدافع عن قضية فلسطين، والمتبني لـ«القدس».
تأجير «المسواك الفلسطيني» ليس جديداً. لقد سبق استخدام القضية نفسها من أنظمة الممانعة جميعاً، وبالأسلوب نفسه. دول الممانعة تلك لم تقدم لفلسطين شيئاً؛ لأنهم لا ينوون أن يقدموا لها شيئاً.
بتمكين أصغر فصيل فلسطيني من التحكم في ملف مهم كعلاقة دول مع إسرائيل، ساهمت تلك الدول - بحسن نية - في منح تلك الفصائل مفتاحاً إلى كنز استراتيجي، ثمنه مغرٍ، إلى الدرجة التي تغشى أعين المرء عن مصلحة شعبه ذاته، فضلاً عن الالتفات إلى مصلحة شعوب مجاورة.
في الأخير، لا أدعي معرفة بمصلحة الفلسطينيين بأكثر من رأي فردي. الفلسطينيون أحرار في إدارة شؤونهم، وهم أدرى بمصلحتهم من غيرهم، وما يملك غير الفلسطينيين سوى النصح سبيلاً إلى المساعدة. ولا أظن أن الدول الحريصة على الشعب الفلسطيني ستتوقف عن المساعدة.
أولى خطوات المساعدة عدم التمادي في تكرار الخطأ الاستراتيجي بالربط بين الملفين. فلا تعارض بين أن تكون الدولة على علاقة جيدة مع إسرائيل، وأن تستخدم هذه العلاقة في دفع الملف الفلسطيني. بل إن الدولة ذات العلاقة الجيدة مع إسرائيل أقدر على المساعدة إن طلب منها الفلسطينيون ذلك. الأهم بالحساب المادي السياسي أن الفصل بين الملفين ينزع من ملف السلام الفلسطيني الإسرائيلي «العرض» المغري الملحق به.
لن تكون اللافتة في المستقبل: «خرب السلام الفلسطيني الإسرائيلي، تمنع علاقات الدول المعتدلة مع إسرائيل». ستكون «خرب السلام الفلسطيني الإسرائيلي». نقطة. ليس هناك مكسب جانبي بتخريب تلقائي لملف آخر ملحق به، هو فرص إقامة علاقات بين إسرائيل والدول ذات المصلحة. لقد أخرجنا هذا الملف من المعادلة.
حين تدرك الدول الإقليمية التوسعية أنها لن تستفيد هذه الفائدة الجانبية، ستتوقف عن دفع ثمنها. وسينخفض مردود تخريب السلام في سوق النضال، حين يدرك الجميع أن الملف الآخر عاد لأصحابه وهم أدرى به. تماماً كما أن الملف الفلسطيني الإسرائيلي - يصر الفلسطينيون - بأيدي الفلسطينيين، وهم أدرى به. هذا يساهم في حل القضية ويزيل واحداً من أبرز معوقاتها.