فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

خرافة ممانعة المجتمعات للتغيير

حين توقفت الحفلات الغنائية في السعودية لما يقارب العقد، لم يكن الإيقاف مفهوماً من قبل المؤسسات الرسمية. سألنا وكتبنا باحثين عن الأسباب والمبررات لإيقافها، وما من مجيب. اليوم وبعد ثلاث سنواتٍ على إطلاق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لـ«رؤية 2030» وما تكتنزه الرؤية من خطط ومشروعات وحزمة إصلاحات هيكلية على المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وغيرها، بات التغيير ماثلاً وشاملاً، كان البعض مستبعداً أن تظهر عطاءات الرؤية بهذه السرعة، لأنه اعتاد على الأداء البطيء، والأخطر من ذلك البطء اتخاذ قرارات سلبية بحجة عدم قابلية المجتمع بهذا النمط من التغيير، أو لهذه الظاهرة الجديدة. والحقيقة أن الأمير محمد بن سلمان أثبت للعالم أنه أعرف الناس بمجتمعه، ويعلم جيداً أن الفضاء العام يتحمل كل التغييرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
الحجة الأكثر استهلاكاً لأعمار الأجيال في السعودية وضعت على المجتمع، وبأنه لا يريد هذه التغييرات العصرية، والخيارات المدنية، مثل السينما، وحفلات الترفيه التي تتجاوب مع خيارات العزاب والعائلات والأطفال، والسبب في تصديق ذلك أن الصوت الأعلى كان لتيارٍ واحد متطرف أصولي استئصالي يعتبر المجتمع كله تحت سطوته؛ حيث قام بنفوذه في ترهيب بعض المسؤولين، الذين عانوا منهم، ولبعضهم فيديوهات وهم تحت حصار فرق أصولية تجوب معارض الكتب والندوات الفكرية، ولا حيلة أمام المسؤول إلا الإنصات والتطمين، ولكن لم يكن هذا التيار المتطرف هو النائب عن المجتمع في خياراته المدنية، أو مشروعه المستقبلي، وبعض مدن السعودية من شدة الصمت والفراغ القاتل تحولت حيناً إلى مدن أشباح، إذ لا حركة ولا أنشطة ولا ترفيه، حتى المكتبات العامة التي كنت أزورها كلها بانتظام تعرضت لنكبات رقابية شديدة، مما جعل بعض الكتب تختفي أو تخفى تغليباً للسلامة من الثرثرة وجحافل البعض من المحتسبين.
ولكن حين منّ الله على هذه البلاد، برؤية ثاقبة طرحها الأمير محمد بن سلمان بدعمٍ حثيث من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تبين أن المجتمع توّاق نحو التغيير المنسجم مع قيمه المرعية، ولذلك رأينا أن التحولات الإيجابية التي تفرعت عن الرؤية آتت أكلها في كل مدينة ومحافظة وقرية، وبخاصة فيما أجيد متابعته مثل التغيرات الثقافية والفنية، إذ هناك إقبال مستمر وشغف متعاظم لإتمام هذه المسيرة من التطوير لشكل المدينة في السعودية لتكون أعظم من مدنٍ كان لها سبق الريادة في مجالات العصرنة والتغيير.
في حوار الأستاذ غسان شربل مع الأمير محمد بن سلمان قالها ولي العهد بوضوح: «أنا فخور بأن المواطن السعودي أصبح يقود التغيير، بينما تخوف كثيرون من أن (الرؤية) ستواجه مقاومة بسبب حجم التغيير الذي تحتويه. كان كثيرون يقولون لي إن أصعب ما سأواجهه في التحول الاستراتيجي هو المقاومة، ولكني رأيت أن هذا العامل ضئيل جداً في الشباب السعودي الذي صار يتسابق أمامي ويقود التغيير. وأود الإشادة بدور الشباب مطعماً بالخبرات في الحراك الذي تعيشه المملكة. إنها رؤية شابة، روحها شابة. كما تحول النقاش من التغيير الذي نريده من الدولة إلى التغيير الذي نصنعه جميعاً».
لن تسمح السعودية بارتهان المجتمع لقضايا قديمة متهالكة، ولا أن تختطف من تياراتٍ آيديولوجية خشبية. لقد مر المجتمع بتأثيرات الشيوعية، والقومية، والأصولية المتطرفة، والآن تغيرت المعادلة، قالها الأمير أيضاً بحزمٍ شديد: «فلننظر إلى المنطقة العربية حيث يوجد إجماع بين الغالبية العظمى لدولنا على أولوية العيش الكريم للمواطن، وتحقيق أمن واستقرار أوطاننا. لا تريد شعوبنا أن تكون أسيرة لنزاعات آيديولوجية تهدر فيها مقدراتها. واليوم وبشكل غير مسبوق أصبح هدف الجميع واحداً، وبات التنافس بين معظم دولنا على تحقيق أفضل معايير الحياة للمواطن، وجذب الاستثمارات وتحقيق التنمية في المجالات كافة. أما الاضطرابات السياسية فمصدرها معروف وهو التنظيمات الإرهابية مثل (داعش)، و(القاعدة)، و(الإخوان المسلمين)، وسياسات النظام الإيراني الراعي الأول للإرهاب والتطرف. ولن نضيع الوقت في معالجات جزئية للتطرف، فالتاريخ يثبت عدم جدوى ذلك. ونحن ماضون بإذن الله، من دون تردد، في نهجنا بالتصدي بشكل حازم لكل أشكال التطرف والطائفية والسياسات الداعمة لها».
من الصعب أن تعلق على حوارٍ قال كل شيء، ولكن لا بد من القراءة المتأنية له، فالسعودية اليوم تسير بطريقة استثنائية وخارقة، وعبارة الأمير يرويها كل من يعرفه عنه بعد كل إنجاز: «لم نبدأ بعد»، هذه عبارة الطامحين الفرسان في ميادين التطور والنهضة والحضارة، وسيذكر تاريخ السعودية هذه النقلة القوية في ظل ظروف إقليمية صعبة، وتفاقم آفات الحسد من قبل أحزاب المقاومة ودكاكين الممانعة، والمتقافزين المحاولين التطاول على سيادة دولة المملكة العربية السعودية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.