صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

لو لم يضع إردوغان نفسه في القاطرة «الإخوانية»!

ذكرت هيلاري كلينتون في كتابها «الخيارات الصعبة»، أن الإدارة الأميركية كانت قد بحثت عن زعيم مسلم «سُنِّي» وعن زعيم مسلم «شيعي» للتفاهم معهما على أمور كثيرة، فوقع الخيار على رجب طيب إردوغان، وعلى علي خامنئي، وأغلب الظن أن النتيجة كانت كل هذا الصعود السريع لكليهما، ولكل هذه الأدوار التي قاما بها، داخلياً وإقليمياً، وأيضاً دولياً. وهنا فإنه لا ضرورة لأي اتهامات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك ما يعزز «رواية» هذه السيدة الأميركية التي ضمنتها كتابها هذا المشار إليه، والذي احتوى على كثير من أسرار البيت الأبيض، بحكم أنها كانت سيدته الفعلية الأولى خلال رئاسة زوجها بيل كلينتون.
إنَّ ما يهمنا هنا هو رجب طيب إردوغان، الذي كان مُتَوقعاً منه، عربياً، بعد هذا الصعود السريع أن يعيد لتركيا دورها الإقليمي الذي كانت قد احتلته لعقود طويلة قبل أنْ يصل الحكم إلى مصطفى كمال (أتاتورك) الذي يصفه البعض، وهذا غير مؤكد، بأنه كان أحد رموز من يُسمَّون «يهود الدونمة» الذين كانوا قد أسقطوا الخلافة العثمانية، وتخلصوا من الخليفة عبد الحميد الثاني، لإنشاء هذه الدولة الصهيونية في فلسطين.
إنها مسألة ليس ضرورياً التشكيك فيها؛ إذ إنه أمر طبيعي أن يصعد إردوغان من إنسان عادي وابن عائلة فقيرة بسرعة ضوئية، إلى أنْ يصبح رئيساً لدولة تعتبر الأهم في المنطقة الشرق أوسطية، كقوة عسكرية، وكموقع جغرافي، وكتحالف دولي، على اعتبار عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وباعتبار أن جيشها هو ثاني جيش في هذا الحلف بعد الجيوش الأميركية التي لا مبالغة في وصفها بأنها القوة الكونية الأولى.
لقد كان هناك إجماع من قبل الذين كانوا ينتظرون من هذا القائد الإسلامي، الذي أصبح خلال فترة ليست طويلة كسهم منطلق من قوس مشدودة الوتر، ربما أكثر مما كانوا ينتظرونه من الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني؛ لكن هذا الانتظار ما لبث أن ارتطم بجدران الحقيقة. والحقيقة أن رجب طيب إردوغان قد انكشف على حقيقته خلال فترة قصيرة، عندما بدأ في تعبيد طريقه للوصول إلى ما وصل إليه بالتصفيات الدموية والسياسية، التي طالت معظم رفاق مسيرة البدايات الذين كان من بينهم، بالإضافة إلى فتح الله غولن، الذي أصبح لاجئاً سياسياً في الولايات المتحدة، وكل من عبد الله غُل وأحمد داود أوغلو، بالإضافة إلى عشرات ألوف كبار ضباط الجيش التركي، الذين إمّا تم تثقيب صدورهم بالرصاص، أو علقوا على أعواد المشانق، أو طفحت بهم عنابر وزنازين السجون التركية. لقد كان إردوغان خلال مشوار صعوده هذا قد توقف في محطات سياسية وحزبية متعددة وكثيرة، وذلك إلى حد أن الانطباع الذي ساد عنه مبكراً أنه رجل متقلب، وأن ما كان يهمه هو الصعود السريع إلى الموقع الأول في هذا البلد «الاستراتيجي» الكبير، وليست المبادئ ولا القيم التي كان أتباعه يروجونها عنه. والمعروف أن معظم هؤلاء، إن لم يكونوا كلهم، قد تفرقوا عنه كما تتفرق العصافير المذعورة عندما يهاجمها أحد الـ«بواشك»، منقضاً عليها من السماء.
ويقيناً، إن أكبر خطأ ارتكبه إردوغان، خلال مسيرته السياسية كلها التي كان قد توقف خلالها في محطات حزبية متعددة وكثيرة، هو انضمامه إلى «جماعة الإخوان المسلمين» الدولية، التي باتت تعتبر تنظيماً إرهابياً، بعدما ثبت أنها هي التي كانت تقف وراء كل الاغتيالات السياسية في مصر، السابقة واللاحقة، وكل الجرائم والتصفيات التي جرت في كثير من الدول العربية والإسلامية، وأيضاً في دول العالم.
كان بإمكان إردوغان أن يصبح زعيماً إقليمياً ودولياً من دون أن يحشر نفسه ويحشر تركيا معه في هذه الزاوية «الإخوانية»، التي لم تعد مقبولة، لا في مصر ولا في معظم الدول العربية الفاعلة والمؤثرة، ولا في معظم الدول الإسلامية القريبة والبعيدة، ولا في العالم بأسره، والتي يؤخذ عليها أيضاً بعد اختراعها لـ«حماس» أنها المسؤولة، ومعها الشيخ يوسف القرضاوي (الإخواني) وبعض الدول العربية، عن تمزيق الساحة الفلسطينية، على نحوٍ لم يخدم إلا دولة الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية.
كان على إردوغان أن يكون أكبر من كل هذه الحسابات الآنية الصغيرة، وألا يحشر نفسه وبلده في دائرة هذا «التنظيم» الذي بات يعتبر إحدى الآفات الكونية، وكان عليه ألا يلج كل هذه الأبواب التي ولجها بعد أن أصبح «إخوانياً»، وغدا، كما يقول البعض، مرشداً عاماً لـ«الإخوان المسلمين» ووريثاً غير شرعي لأول مرشد لهؤلاء، وهو حسن البنا، وبحيث أصبح يَدخل ويُدخل تركيا معه في لعبة المحاور والتمحورات المتصارعة التي أُقحمت فيها هذه المنطقة العربية، وأخذ يرسل القوات التركية المسلحة، التي من المفترض أن مكانها جبهات المواجهة مع العدو الصهيوني، إلى منطقة الخليج العربي التي كانت قد فتحت أبوابها للأشقاء الأتراك على الرَّحب والسعة.لقد «غرش» العرب، عندما انتهت الأمور إلى أتاتورك وكل الذين جاءوا من بعده، وصولاً إلى رجب طيب إردوغان، على احتلال تركيا «الأتاتوركية» للواء الإسكندرون العربي في عام 1938، وكان من الممكن أن يجمع المسلمون عليه، أي على إردوغان، كأمير للمؤمنين، لو أنه لم يتدثر بالعباءة «الإخوانية»، ولو أنه لم يطرح نفسه كـ«آية الله العظمى» تيمناً بالخميني، ويتحالف مع إيران الخامنئية.
والسؤال هنا هو: هل يا ترى، سيأخذ رجب طيب إردوغان العبرة مما ارتكبه «الإخوان» من جرائم سياسية وإنسانية، وخصوصاً وهو يعرف أن البريطانيين هم من كانوا وراء تشكيل هذا التنظيم في مصر في عام 1928 لمواجهة الاندفاعة القومية العربية الصاعدة، التي لم تكن موجهة ضد تركيا ولا ضد الأتراك وإنما ضد الاستعمار الغربي، الذي كان قد بدأ يعد لإقامة هذه الدولة الصهيونية في فلسطين؟
فهل بالإمكان يا ترى أن يتراجع إردوغان ويخرج من هذه الدائرة الجهنمية، قبل أن يرتطم رأسه بجدران الحقيقة؟ وحيث إن عليه أن يدرك أنه لو ربح «الإخوان المسلمون» وإيران وبعض الدول العربية، فإنه سيكون خاسراً إنْ «أفلتت» إسطنبول من يده، وإن تحول الشعب التركي بغالبيته ضده. وهكذا، فإن على رجب طيب إردوغان أن يعرف ويدرك أن صعوده بكل هذه السرعة يعني أن سقوطه سيكون أسرع، وأنه الآن على مفترق طرق، والواضح أنه إن هو خسر إسطنبول، فإن حلفاءه الذين تحلقوا حوله بعدما وصل إلى ذروة صعوده، من المؤكد أنهم سيتخلون عنه وسينفضّون من حوله، وهم سيجدون وبالتأكيد ألف مبرر ومبرراً ليلصقوا به اتهامات كثيرة.
هناك مثل شعبي يستخدم في الأردن وفي بلاد الشام كثيراً، يقول: «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع»، وهذا يعني أنه من الأفضل للرئيس إردوغان أن يهبط هبوطاً بطيئاً بعد كل هذا الارتفاع، وأن يعيد النظر في حساباته كلها، وأولها حسابه مع «الإخوان المسلمين» حيث كان التحاقه بهم في فترة كانوا قد بدأوا هبوطهم فيها، وذلك بعد أن وضعوا في الدائرة الإرهابية، مثلهم مثل «داعش» و«القاعدة».