اعتادت مدينة فلورنسا على استقبال الغزاة، فها هم الفرنسيون والإسبان والنمساويون والبريطانيون يشاركون في سباق «غراند تور»، وها هي جحافل السياح الأجانب في سراويلهم القصيرة ونعالهم الخفيفة يتدفقون على هذه المدينة الإيطالية في موجات متلاحقة، ومع ذلك احتفظت بطابعها وروحها الأصيلة دون مساس.
لذلك ليس من المستغرب أنه رد فعل السكان المحليون يكون عادياً عندما يتدفق قرابة 30 ألف زائر كل شهر على «بيتي أومو»، أكبر معرض تجاري للملابس الرجالية في العالم.
يوجد المشترون والبائعون من 50 دولة في المدينة للتجول بين أكشاك أكثر من 1200 عارض بأسواق «فورتيزا دي باسو» التاريخية للحصول على أفضل وأرقى وأحدث الأزياء الرجالية. يدرك أكثرهم حكمة البحث عن اكتشافات خارج قاعات العرض لأن في فلورنسا لا تزال متعة التسوق التقليدية حية، وهو أمر غير مألوف في عصر التسوق عبر الإنترنت.
ولدى سؤال كريستيانو ماني، مدير علاقات عامة من نيويورك حضر لتمثيل علامات تجارية شهيرة مثل «بيتي أومو، و«بنتالوني توريني»، و«إل بي إم 1». عند وصوله إلى فلورنسا، عن وجهته، أفاد بأنه سيترك حقيبته في الفندق وينطلق على عجل إلى صالون حلاقة صغير لم يذكر اسمه يديره الحلاقان البارزان دمنيكو دي ماسكولو، وباولا بروسني اللذان يمارسان حرفتهما بمكان صغير يسع كرسيين فقط في قلب المدينة. انتهى كريستيانو من الحلاقة بوضع فوطة الحلاقة الساخنة ثم شق طريقه إلى متجر «غيستو بيسبوك» الذي ينتج قمصان ماركة «لوكا غيستو» الأنيقة، وهي مزيج من ذوقي نابولي وفلورنسا.
بحسب ماني، «في فلورنسا، عادة ما يكون الأمر غير العادي هو الأكثر شيوعاً»، في إشارة إلى المتاجرة المنتشرة بجميع أنحاء المدينة التي تقدم ليس فقط الورق الرخامي والأواني الحرفية التي تشتهر بها فلورنسا ولكن أيضاً مفاهيم الزركشة والنسيج والأدوات المنزلية التي اختفت جميعها في العديد من المدن الإيطالية الكبرى.
ويبدو أنه في فلورنسا فقط تستطيع العثور على مجموعة مختارة من العطور (وأيضاً الصيدليات) وكل منها يدعي أنه الأكبر والأقدم.
وعن المؤسسة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت والمغطاة بألواح خشبية والتي تبعد خطوات عن الكنيسة التي تحمل نفس الاسم قال ماني: «أصبح الجميع يعرفون متجر سانتا ماريا نوفيلا، لكنني أفضل مكاناً جديداً هو أكوافلور الذي ينتج العطور ويمكن للعملاء تجربة الروائح المصنعة حسب الطلب أو الاختيار من بين مجموعة من العطور الجاهزة، والصبغات، والشموع، والصابون والكولونيا بأسماء مثيرة للإعجاب مثل هوسارـ وبيلادونا، وزغاري، وغيرها».
أضاف ماني: «لديهم أيضاً هذه العطور المخبأة فيما يسمونه أرميديو دي فيليني، وتعني خزانة السموم الخطرة».
لقد تركزت الثروة دائماً في هذا المكان الذي ولدت فيه كل من الرأسمالية الحديثة وعصر النهضة الإيطالية، حيث تحقق أسواق «بيتي أومو» ما يقرب من 300 مليون دولار أميركي تضاف للاقتصاد المحلي سنوياً في غضون أربعة أيام فقط، وهو ما حدث العام الماضي، وفق دراسة أجرتها جامعة بوكوني في ميلان. ومع ذلك، رغم التدفق الكبير وما يجلبه من مال وفير، لا تزال فلورنسا متمسكة بطابعها المحافظ وتخليها عن التباهي والبهرجة في أسلوب العرض.
في السياق ذاته، قال سايمون كرومبتون، مدون مختص بالملابس الرجالية ومؤلف كتاب «دليل السفر في سارتوريال»: المدينة منطوية تماماً وتميل إلى الإبقاء على نفسها مخفية»، وقد يفسر ذلك الإحساس اللطيف الذي يخالجك عند التجول في شوارع المدينة القديمة المتعرجة.
غير أن سلاسل المتاجر متعددة الجنسيات بإضاءتها المبهرة بدأت تحل محل بعض تجار التجزئة التقليديين، بما في ذلك محال بيع المجوهرات على جسر «بونتي فيكيو» العريق، موطن صاغة الذهب في فلورنسا لقرون. ومع ذلك، لا تزال المحال العتيقة قائمة ومن السهل العثور عليها مثل «سكولا ديل كياو»، وهو مشغل للأزياء الجلدية يقع في مجمع رهباني في حي «سانتا كروشى» أسسه الرهبان الفرنسيسكان بعد الحرب العالمية الثانية، بالتنسيق مع العديد من الأسر الأرستقراطية المحلية بغرض تعليم الأيتام التجارة.
قال سايمون كرومبتون، «إنه لمكان مدهش. فهذا المكان به مدرسة ضخمة للصناعات الجلدية وسط بازيليكا»، حيث يجري تصنيع حقائب الظهر الجلدية الرائعة والقوية والستائر والمحافظ والأحزمة وبيعها تحت قبو مزين بلوحات جدارية من تعود إلى القرن الخامس عشر».
بعد نهاية الجولات، يقوم الزوار بعمل خرائط ذهنية لمدينة فلورنسا لتحديد أماكن المتاجر ومراكز الحرف التقليدية المنتشرة في جميع أنحاء وسط المدينة التي تشبه المتاهة والتي نادراً ما تجد لها ميلاً في أي مكان آخر.
ووفق لاودوميا بوتشي، نائبة رئيس مجلس الإدارة ومديرة التصوير بشركة «إيميليو» التي أسسها والدها الذي يعد أحد أعيان فلورنسا: «إذا كنت تفكر في الابتكار، فإن فلورنسا ليست بهذه الإثارة». لكن إذا كنت تفكر في التقاليد التي لا تتغير بسرعة فإن مسقط رأسي هو بلد العجائب التاريخية». وعند سؤالها عن أكثر الأماكن تفضيلا، أجابت بوتشي، «هناك محل صياغة الفضة بمبالوني، وصانع الجواهر الخاصة ماتسيني، وورشة صناعة الزجاج الحرفي باولو بوتشي».
أشارت بوتشي إلى متجر صغير يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1561 قائلة: «لديهم منتجات رائعة وعصرية من الصابون والكريمات والزيوت المكثفة. كما أن لديهم روائح أعشقها صنعت من نبات إبرة الراعي المصرية.
اختتم ماني، مسؤول العلاقات العامة القادم من نيويورك، قائلاً: «في النهاية يمكن القول إنها مدينة لم تحتلها بعد سلاسل الأسواق الضخمة. والأمر الأكثر ندرة، حتى بالنسبة لإيطاليا، هو أنه لا يزال بإمكانك العثور على أفضل الأشياء الجيدة هناك في الزوايا غير المتوقعة. بصراحة، لقد توصلت إلى أماكن مذهلة من خلال التجول».
- خدمة «نيويورك تايمز»