حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

الكرة في ملعب البيت الأبيض

حبس العالم أنفاسه، الخميس الماضي، من صِدام حربي بين الولايات المتحدة وإيران، بعدما تجرأ «الحرس الثوري» وأسقط طائرة أميركية مسيّرة كانت تحلق في المجال الجوي الدولي فوق مضيق هرمز. حدث غير مسبوق، وصفه الرئيس الأميركي بـ«الخطأ الجسيم»، جرى في المجال الدولي، و«لدينا ما يوثق ذلك». الخيار العسكري الذي تضمن بنكاً من الأهداف العسكرية الرئيسية وُضع على الطاولة في البيت الأبيض، ووُضعت المعطيات أمام قادة الحزبين، ورغم سحب الرئيس ترمب قراره بضرب مواقع الصواريخ والرادار الإيرانية، بعدما تردد أنها كانت قد تؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين يكون من الصعب السيطرة على تداعياتها، فإن ما أُعلن عن رسالة رئاسية أميركية لإيران يُعلن «لا نريد حرباً لكننا نريد مباحثات»، ضمن مهلة محددة لبدئها وإلاّ... وبمعزل عن رد طهران الذي تضمن تحذيراً «بشأن العواقب الإقليمية والدولية لأي عمل عسكري أميركي»، وهو ردّ طبيعي من حكام طهران المزهوين بفعلتهم، فإن الثابت الآن أن هناك هراوةً أميركيةً مرفوعةً، ومع عدم التجاوب من القيادة الإيرانية، سيجد سيد البيت الأبيض نفسه أمام حتمية التصديق بأن إسقاط الطائرة كان مقصوداً، والأمر لم يصدر عن «غبي فاشل لا يدرك العواقب»!
انتُخب الرئيس ترمب وفق أجندة تعطي أولوية للانسحاب من المنطقة، والقرارات المتناقضة للانسحاب من سوريا أكدت تمسكه بهذا المنحى، وعدم الذهاب إلى الحرب، لكن نجاح العقوبات الأميركية الشديدة على إيران، وميليشياتها، والمتعاونين معها، حتَّم التغير الذي أراده البيت الأبيض تغيراً جزئياً. لكن المضي في العقوبات إلى الذروة، والإعلان أن بديلها جدول أعمال تضمن الشروط الـ12 للوزير مايك بومبيو، قابلته إيران بالذهاب إلى الذروة المقابلة مستخدمة كل أوراقها، مستفيدة من القرار الأميركي بأن البيت الأبيض لا يريد حرباً. لكن الاستفزازات الإيرانية تسارعت، فبدأ العد العكسي للحرب التي لم تعد مجرد احتمال مستبعد.
هجوم الفجيرة على أربع ناقلات، واستهداف محطتي ضخ النفط في السعودية أثارا الأسئلة، وكان الرد ما قيل عن انتشار رادع لم يُرفق بتسمية الجهة المعتدية... وتتالت التحرشات: قذائف في العراق، واستهداف مطار أبها المدني جنوب السعودية ثم ناقلتي النفط في خليج عمان، وهو الاعتداء الذي وقع على مسافة تقلُّ عن 14 ميلاً من «جاسك» حيث توجد أكبر القواعد البحرية للجيش الإيراني و«الحرس الثوري».
وكان لافتاً أن هذه العملية استغرقت نحو 3 ساعات! وكالعادة، تنصّلت طهران من المسؤولية، مع العلم أن دول الخليج العربي، لا سيما السعودية والإمارات وسلطنة عُمان، إضافة إلى إيران، هي التي تطلُّ على الخليج الذي هددت طهران بإقفاله.
وكان أمراً طبيعياً أن تستعيد كل الجهات تصريحات قادة «الحرس الثوري» عن إقفال هرمز، كذلك الرئيس حسن روحاني الذي أعلن أنه إذا مُنعت إيران من تصدير نفطها، فإن الآخرين لن يكون بمقدورهم تصدير نفطهم! والحصيلة: تحدّت طهران الهيبة الأميركية، ونجحت في توجيه رسالة مفادها أن إمدادات النفط إلى العالم باتت في خطر، والممرات المائية الدولية لم تعد آمنة، ووضع النظام الإيراني المنطقة على حافة الهاوية، بإصراره على إثارة التوتر كمتنفس له، نتيجة العقوبات الأقسى المفروضة عليه، وأساساً كوسيلة لا يملك سواها لشد العصب بذريعة أخطار خارجية، ما يسمح له بتعميم القمع على الجبهة الداخلية المضطربة حيث لم ينل المواطن الإيراني سوى الجوع من مسيرة 40 سنة من حكم الملالي والتطرف.
ومع الأدلة الأميركية بأن الألغام المستخدمة إيرانية الصنع، وأنه «لا أحد من الوكلاء لإيران لديه القدرة والإمكانات للقيام بعملية معقدة بهذه الدرجة»، وأن أميركا ستضمن الملاحة عبر مضيق هرمز، لأن الهجمات تمثل تهديداً للأمن الدولي والملاحة البحرية، وأن واشنطن ستدافع عن قواتها ومصالحها وستقف إلى «جانب شركائها وحلفائها لتأمين التجارة العالمية والاستقرار الإقليمي»... كان لافتاً التغيير في موقف الرئيس ترمب، فأعلن أنه من المبكر جداً حتى مجرد التفكير في إبرام اتفاق: «هم ليسوا مستعدين، ولا نحن أيضاً».
ومضت طهران في التحدي، كقرار خروجها من الاتفاق النووي، والبدء برفع نسبة التخصيب فوق المتفق عليه، وزيادة المخزون إلى أكثر من 300 كلغ، واستئناف إنتاج المياه الثقيلة بنسبة تفوق الـ150 طناً. لكن الخطوات العملية أثبتت أن السياسة التي حددها المرشد، «لا تفاوض ولا حرب»، سياسة قاصرة لا تحدُّ من الخسائر التي تخنق النظام الإيراني. هنا تغيّر المنحى، وقررت طهران تحريك المياه الراكدة بوهم فتح كوة ما، وعدم القبول بأن يحدد الرئيس الأميركي المنحى العام للأمور. ولأن الحرب الاقتصادية بدأت تشلُّ إيران وتضعف قدراتها الخارجية، وتداعياتها أشد تأثيراً من الحرب المباشرة، قرر الملالي تجاوز كل الخطوط الحمراء، وإسقاط الطائرة الأميركية، بزعم أن العملية دفاعية، واتهام أميركا بخرق السيادة الإيرانية!
شركات الطيران العالمية بدأت تتجنب الأجواء الإيرانية، وكل المؤشرات توحي بأن الانزلاق إلى نزاع عسكري هو الأقرب، وربما يكون حكام طهران قد باشروا جسّ نبض عبر الوسطاء السويسريين والعُمانيين، وهم يدركون، ولا شك، أن الخيارات العسكرية الأميركية على الطاولة، والوقت داهم لكل الأطراف. يعني إذا كانت الأسباب الانتخابية حدَت سابقاً بالرئيس الأميركي لاتخاذ مواقفه، فإن التلكؤ في الدفاع عن هيبة أميركا سينعكس أيضاً على حظوظه بولاية ثانية، وإعطاء إيران مُهَلاً مفتوحة سيجعل الرد المتأخر أكثر كلفة، ويمكن القول بعد إسقاط الطائرة إن مرحلة الاستفادة الإيرانية من بعض المواقف الأميركية الزئبقية لم تعد متوفرة، والرسالة الجديدة لبدء المباحثات وإلاّ... مغايرة لما كانت قد حملته بعض التغريدات السابقة للرئيس ترمب، مثل القول: «لا نريد المساس بالنظام في إيران»، ثم استعداد الرئيس الأميركي للقاء الرئيس روحاني، وردّ الأخير بالرفض، وصولاً لإبلاغ خامنئي رئيس وزراء اليابان، شينزو آبي، بأنه لا يريد أن يوجه أي رسالة جوابية للرئيس الأميركي. مواقف شجعت طهران، التي كانت تحرص على التخفي وراء وكلاء إقليميين، على الرعونة ورفع مستوى التحدي ووضع المنطقة والعالم على حافة الهاوية!
اليوم، عندما تهدد طهران بأن الرد الأميركي ستكون له عواقب إقليمية ودولية، فإن هذا يعني نية مفضوحة باستهداف آثم لدول المنطقة، واستهداف الاقتصاد العالمي، وبالتالي الاستقرار في الإقليم والعالم، وبالتالي باتت الكرة الآن في مرمى البيت الأبيض!