سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مفكرة القرية: زهر الليمون

إلى ما قبل الحرب اللبنانية (1975) كان زهر الليمون يعني لنا شيئاً واحداً: صيدا وبساتينها. ففي الطريق من القرية إلى بيروت، نطل على صيدا من مشارفها بعد نصف ساعة. وما إن نبلغ تلالها حتى تأتينا روائح زهر الليمون مثل موجة عارمة. ويظل هذا الفوح يرافقنا إلى أن نبتعد عن صيدا على الشاطئ، حيث تتسلم الفوح رائحة البحر.
عندما تطالعنا صيدا الآن، تطالعنا مبانٍ بلا نهايات. حجارة وإسمنت، ولا بساتين. وقد فاضت المدنية نحو جدارها في كل اتجاه. وفيما كانت قبلاً قرية في الضواحي المرتفعة، البعيدة عن «صيدا القديمة»، أو التاريخية، تقوم الآن دارة النائبة العزيزة بهية الحريري. وعندما نمر للسلام عليها، يتبادل الضيوف ذكريات زهر الليمون وفوح البساتين. الضيوف من الشبان يعتقدون أننا نتحدث عن صيدا الفينيقية.
كنا نعتقد أن البرتقال والليمون شجر ساحلي لا يعيش في الجبال، لأن حبات البَرَد تقتل الزهر في الشتاء، فيورق ولا يثمر. ذات مرة أذهلني شجر الكستناء في فلورنسا، فعدت منها وزرعت شجرتين. وهما تثمران الآن كثيراً. ومرة أخرى عدت من الإجازة الحقيقية الوحيدة في حياتي في بوزيتانو، الإيطالية أيضاً، وقد سحرني مشهد البرتقال الكثيف مثل غابة.
زرعنا شجرتي ليمون وشجرة برتقال في مساحة 20 متراً. تزهر جميعها وتثمر على ارتفاع 900 متر. وكما في عجائب الخلق والأرض: شجرة تعطي ليموناً ضخماً شديد الصفرة، وشجرة تعطي ليموناً متوسطاً قليل الصفرة. وطوال العام. والبرتقالة تحمل من الزهر ما تنوء به، لكنه لا يعقد كله، لأن لا مكان للثمار إذا اصطفت. إلا أن ما يبقى يفرح ويذكِّر بأيام صيدا والرحلة إلى بوزيتانو، المكان الوحيد في العالم حيث تتمتع بالنصب والاحتيال لشدة ما هو متقن وظريف. ومثل كل شيء آخر يغلفه الإيطاليون بالموسيقى والغناء وألذ أنواع السباغيتي.
وفي المطعم الأكثر لذةً واحتيالاً، جلس صاحبه أمامنا يفصل الفاتورة (اسمها الإيطالي). وكان كلما جمع الحساب يرى المجموع أقل من حجم الاحتيال، فيضيف بنداً آخر يدعي أنه نسيه. إلى أن شعر أنه لم يبق سوى ثمن الهواء لم يضفه، فاكتفى وضحك وضحكنا. ثم اكتشفنا شيئاً آخر قبل أن نغادر: أن هوايته هي جمع الأحذية من الزبائن، فوقع نظره على حذاء صاحب الرحلة، أخي سامي الصيداوي، فأعطي له. وفي اليوم التالي عدنا من جديد. لم يكن الغبي يعرف أن الفرح الذي يقدمه أغلى بكثير من مجموع النصب.