داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

في اللحظات الأخيرة

كل الأفلام السينمائية البوليسية و«الأكشن» الأميركية والبريطانية والإيطالية والفرنسية والعربية والهندية تنتهي بوصول الشرطة في اللحظات الأخيرة من كل فيلم، لإنقاذ البطل، أو الطفل المختطف، أو إبطال مفعول متفجرات. ومنذ زمن أفلام الأسود والأبيض فَهَمَ أنور وجدي ويوسف وهبي ومحمود المليجي وفريد شوقي وشكري سرحان وتوفيق الدقن أن الشرطة لن تأتي لإلقاء القبض على المجرمين في بداية الفيلم، ولا في وسطه، فالقصة والإخراج يقتضيان أن تظهر الشرطة في اللحظات الأخيرة لزيادة التشويق. والسينمائيون العرب ليسوا أصحاب براءة اختراع «اللحظات الأخيرة» من الفيلم، وإنما هم نقلوها بالقلم والمسطرة عن الأفلام الأميركية.
وهذا المقال ليس عن السينما، وإنما عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي تبين، كما قالت صحيفة «واشنطن بوست»، أنه لا يملك استراتيجية واضحة لإدارة العلاقة مع إيران، ما جعله يوجه عدداً من مساعديه ومؤيديه للظهور في القنوات التلفزيونية ليدافعوا عن موقفه «المتردد والمتناقض»، على حد وصف بعض المحللين الأميركيين. فترمب، كما روت الصحيفة الأميركية، قرر يوم 21 يونيو (حزيران) الحالي القيام بعمل عسكري ضد ثلاثة أهداف في إيران رداً على إسقاطها الطائرة الأميركية من دون طيار. ثم تراجع «في الدقيقة الأخيرة»، لأنه شعر أن مستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو «يحشرانه في مكان لا يريده». فالاثنان، ومعهما مديرة المخابرات المركزية جينا هاسبل، وبقية فريق مستشاري ترمب ومساعديه، كانوا يؤيدون توجيه ضربة انتقامية ضد إيران. إلا أن القرار النهائي بيد ترمب، وليس أي أحد آخر. لكن مايكل مايكوفيسكي رئيس «المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي»، قال إن ترمب «يُعَرّض مصداقية الولايات المتحدة للخطر». وفي السياسة الأميركية، في عهود كل الرؤساء، لا تعني «المصداقية» أمراً يستحق أن ينحني أي منهم أمامه احتراماً. والدرس الأبلغ أمامنا من حرب جورج بوش الابن على العراق وغزوه واحتلاله بحجج ثبت أنها كاذبة وملفقة، وتفتقر إلى أبسط الدلائل. خلفت تلك الحرب والاحتلال الأميركي مئات الآلاف من الضحايا العراقيين، ومعهم نحو خمسة آلاف قتيل عسكري أميركي وعشرات الآلاف من الجرحى. ولم يهتز البيت الأبيض أمام كل هؤلاء الضحايا من الجانبين، لكن جدران القاعة البيضاوية في البيت الأبيض تصدعت لمجرد أن قال أحد الجنرالات لترمب إن عملية ضرب المواقع الإيرانية الثلاثة ستُخلّف 150 قتيلاً إيرانياً، واحتمال مقتل 35 عسكرياً أميركياً في إحدى الطائرات. مئات الآلاف من القتلى العراقيين لم تعنِ شيئاً لجنرالات البنتاغون، لكن «احتمال» سقوط 150 قتيلاً إيرانياً يستوجب إيقاف عقارب الساعة «في اللحظات الأخيرة». الآن عرفنا أن قلب الرئيس ترمب رقيق. وهو كان رقيقاً أيضاً حين أعلن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ثم كان أكثر رقة بالسماح لإسرائيل بضم هضبة الجولان السورية المحتلة إلى الكيان الصهيوني.
طوال شهرين متصلين ننام ونصحو على تصريحات الرئيس الأميركي حول «الحرب المدمرة» التي سيشنها ضد إيران الملالي. لكنه في «العشر دقائق الأخيرة»، قبل تنفيذ ضربات محدودة، قرر ترمب تأجيل العملية وإطفاء الأنوار والتهيؤ لتناول طعام الإفطار!
الواقع علمنا أن «اللحظات الأخيرة» هي الفاصل بين قرار يدخل التاريخ وقرار يهمله التاريخ. وهي الفاصل - مثلاً - بين قرار يحاصر آلاف الأسر المكسيكية، رجالاً ونساءً وأطفالاً على الحدود، وقرار «يخشى» أن يموت 150 عسكرياً من «الحرس الثوري» الإيراني مقابل إسقاط إيران طائرة استطلاع أميركية من دون طيار.
دعونا من ترمب الآن، ففي ساعته دقائق معدودة كثيرة ولحظات أخيرة لا تعد ولا تُحصى. ولنقرأ بعض ما يقوله التاريخ عن مثل هذه الدقائق واللحظات:
في عام 1970 بعد صدور بيان 11 مارس (آذار) للحكم الذاتي للأكراد، حلقنا في ثلاث طائرات هليكوبتر عراقية مع نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي صدام حسين في الطريق إلى سد دوكان في محافظة السليمانية. وقبل أن تهبط طائرة صدام تنبه الطيار «في اللحظات الأخيرة» إلى أن المكان الذي ستهبط فيه الطائرة هو حقل ألغام من سنوات الحرب الداخلية الطويلة. وكاد وجه العراق يتغير في ذلك التاريخ.
من لا يعرف الزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ، لا يعرف شيئاً عن حقوق الأميركيين من أصل أفريقي. كل هؤلاء يحتفلون سنوياً بذكرى الرجل القس الذي صرعته رصاصة متعصب أميركي أبيض في 4 أبريل (نيسان) 1968، بعد أن ترك للبشرية أجمل عبارة رومانسية سياسية قالها إنسان: «لديّ حلم» التي وردت في خطاب ملهم حول الحقوق المدنية. وفي الخطاب الأصلي المكتوب لم يكن هناك أي ذكر لكلمة «الحلم». لكن «في اللحظات الأخيرة» من الخطاب صرخت ماهاليا جاكسون مغنية التراتيل الدينية: «أخبرنا عن الحلم». فبدأ مارتن لوثر كينغ يرتجل قائلاً: «لديّ حلم». وفعلاً نال الأميركيون السود معظم حقوقهم، ودخل واحد منهم إلى البيت الأبيض رئيساً (باراك أوباما)، ليشهد العرب أسود أيامهم معه، خصوصاً بعد قراره الطائش بانسحاب قواته المحتلة من العراق فوراً تاركاً الباب مشرعاً على مصراعيه لدخول الميليشيات الإيرانية و«فيلق القدس» وقاسم سليماني والاحتلال الإيراني للعراق.
وفي التاريخ الأميركي أيضاً، و«في اللحظات الأخيرة» من الحرب العالمية الثانية، قرر الرئيس الأميركي هاري ترومان، إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ومدينة أخرى اسمها كوكورا. لكن الطيار قرر «في اللحظات الأخيرة» إلغاء مهمته بإلقاء قنبلة ذرية على كوكورا، لأن السماء فوقها كانت ملبدة بالغيوم. وهكذا نجت المدينة من الكارثة، لكن ترومان أمر بتنفيذ خيار آخر، وهو مدينة ناغازاكي التي تلقت قنبلة لم تكن مُعدة لها، ولكنها قسمة «اللحظات الأخيرة» من الحرب العالمية الثانية. وترومان هذا هو رئيس أول دولة تعترف «في اللحظات الأولى» بدولة لم تكن على خريطة العالم اسمها «إسرائيل»!
و«في اللحظات الأخيرة»، من هذا المقال، أذكركم بأن غرق السفينة «تايتانيك» في عام 1912 لم يكن السبب الرئيس لكارثة اصطدامها بجبل جليدي، ولكن السبب استغناء قبطان السفينة «في اللحظات الأخيرة»، قبل إبحارها، عن ضابط من طاقهما نسي وهو يهبط من السفينة تسليم مفتاح الخزنة التي تضم مناظير مراقبة الجبال الجليدية وسط المحيط. فاعتمد البحارة على عيونهم التي لم تكن مثل عيون زرقاء اليمامة فاصطادها جبل جليدي في المحيط الأطلسي.
القدر يتدخل كثيراً «في اللحظات الأخيرة»، سواءً في المحيط الأطلسي أو الخليج العربي.