حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

الصفعة

كتبت انتخابات إسطنبول مقدمات سقوط الإردوغانية، والحكم المطلق الذي استمر 16 سنة، ونهاية حقبة حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي الذي قال له الناخبون كفى. أراد الرئيس رجب طيب إردوغان تحويل انتخاب عمدة إسطنبول لاستفتاء على شخصه، وأسلوب حكمه، والسياسات التي اتبعها وما أسفرت عنها، فكانت الحصيلة صفعة مدوية تجلت في الهزيمة الصافية مرتين خلال ثلاثة أشهر. في المرة الأولى فاز أكرم إمام أوغلو بفارق نحو 14 ألف صوت، فأصر إردوغان على رفض النتيجة والطعن فيها واتهام الفريق الفائز بالتزوير، وبعدها مورست كل أشكال الضغط على اللجنة العليا للانتخابات التي انصاعت لرغبات «السلطان»، فأبطلت النتيجة وقررت إعادة الانتخابات، فحدثت الانتفاضة ليفوز أوغلو بفارق ناهز 900 ألف صوت، فما الذي حدث وماذا سيترتب من نتائج على هذا الزلزال الانتخابي؟
بداية تخطى الناخب الخوف الذي خلقه إردوغان في تركيا، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية المزعومة حسب البعض في عام 2016 وتداعياتها المستمرة، من إصدار أحكام معلبة بالسجن طالت عشرات الألوف، وقرارات تعسفية بالفصل من الوظيفة طالت مئات ألوف المواطنين، في الجيش والقضاء والجامعات والإدارة... إلخ، وقرر الناخب قبول تحويل الانتخابات إلى استفتاء يمنع وقوع تركيا في أسر الديكتاتورية وإفراغ الانتخابات من مضمونها، فكانت النتيجة أن تركيا بحاجة إلى تغيير كاسح.
ثاني الملاحظات بينت أن إلغاء النتيجة وإعادة الانتخابات أحدثا شعوراً بالمرارة لدى الناخبين الرافضين للظلم الذي تم إنزاله بالعمدة الجديد للعاصمة الاقتصادية لتركيا، وهم اعتبروا أن القرار جائر لا مسوغ له وأنه سلبهم حقهم في الاختيار الديمقراطي، وأنه قرار مسيّس تمّ بعد ضغوط مارستها السلطة؛ ما خلق الأجواء المواتية لتصويت عقابي واسع. شكل هذا التصويت رد الفعل القوي الذي شمل كل الأوساط والشرائح من الكبار إلى الشباب والنساء، فأثبتوا تمسكاً بصندوق الاقتراع ورفض التزوير.
ثالث الملاحظات متأتية من الموقف الكردي حيث يناهز عدد الناخبين الأكراد في إسطنبول المليون ونصف المليون ناخب. هم على العموم شريحة ترى أن الحزبين الرئيسيين يلتقيان على العداء للكرد، لكن التجربة الطويلة مع «العدالة والتنمية» فاقمت المرارة لديهم فانحازوا إلى مرشح المعارضة خصوصاً بعد النداء الذي وجهه من سجنه صلاح الدين ديمرطاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي لانتخاب أوغلو فكان أن أجهض محاولات تقسيم الصوت الكردي.
رابعاً: إن هذه الانتخابات لم تكن مجرد انتخابات بلدية، فالناخب التركي كان أمام خطابين؛ خطاب متشوف للسلطة والمرشح بن علي يلدريم ومعه الوعود متناسياً أن حزبه يقود إسطنبول منذ ربع قرن، وينفرد بحكم تركيا، وهو الذي قدم للناس أبشع أساليب التحيز والاستبداد والمحسوبية، وأمام الناس تراجع مخيف في القدرة الشرائية وازدياد في نسب البطالة واستنزاف المدخرات وتضاؤل الحريات العامة... يقابله خطاب واعد يعد بشفافية ومحاسبة الفاسدين وعمل ممنهج لتطوير الحيّز العام والمرافق التي تلبي احتياجات الناس في الصحة وفي التعليم وفي الترفيه... إلخ، ويولي اهتماماً لكل الفئات من حيث إمكانية فرص العمل واستيعاب الشباب منهم. وجد الناخبون أنفسهم أمام مشروع زعيم جديد لتركيا استطاع التحدث مع كل مكونات البلد والتحاور مع كل الفئات.
خامساً: إن حزب إردوغان تغير كثيراً، وبات حزب رجال الرئيس والحاشية التي تضم نماذج من المتسلقين والفاسدين، الذين احتكروا المشاريع والأعمال التي وُضعت على مقاسهم، يغطيهم تطويع أجهزة الشرطة في خدمتهم، وبعد إبعاد نحو 4 آلاف قاضٍ من المستويات المختلفة، أصيب البقية من القضاة الذين استمروا في مناصبهم بالشلل نتيجة مناخ الخوف، وأمامهم ملايين الدعاوى التي تفتري على الناس ولا هدف منها إلاّ كم الأفواه. لكل هذا حدث الانقلاب بين شرائح من الناخبين التقليديين لـحزب إردوغان وحليفه حزب الحركة القومية فذهب مئات الألوف ليصوتوا للمرشح العلماني؛ ما شكل إنذاراً كبيراً لزعامة إردوغان، واستمرارية الحكم الإسلامي في تركيا.
وبعد، فإن أول التداعيات لهذه الانتخابات سيتعرض لها حزب «العدالة والتنمية»، والذين خوّنهم إردوغان يتحركون الآن علانية لإطلاق حزب سياسي سيأكل حتماً من رصيد الحزب الحاكم، ولا سيما الثلاثي: الرئيس السابق غل، ورئيس الحكومة السابق داود أوغلو، والوزير باباجان، وفي ضوء النتائج الانتخابية في إسطنبول قد يلتحق بالحزب الجديد نحو 50 نائباً من «العدالة والتنمية» ونتيجة هذا التحرك ستظهر في الانتخابات البرلمانية المقبلة والانتخابات الرئاسية في عام 2023.
قال الرئيس إردوغان في تهنئة العمدة الجديد لإسطنبول إن «النتائج تشير إلى أن هذه هي الإرادة الوطنية»، وواقعياً عبر عن قبوله النتيجة التي حملت له خسارة تاريخية، ولكونه هو القائل من يحكم إسطنبول يحكم تركيا، فمن هذه المدينة التي يعيش فيها خمس سكان تركيا، يتم جمع 43 في المائة من إجمالي الضرائب وفيها نحو 60 في المائة من دخل تركيا، يعرف إردوغان أبعاد ما أعلنه الفائز من أن «الانتصار بداية لمرحلة جديدة»، مرحلة قرأها رئيس حزب الحركة القومية حليف إردوغان بأنها تستبطن دعوة لانتخابات سابقة فرأى أن «أي دعوة لانتخابات برلمانية مبكرة ليست لمصلحة البلاد» (...) ولكن عندما تكون الإدارات المحلية في المدن الكبرى: إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، وأضنة ومرسين وسواها... بيد المعارضة، يعني أن الذهاب إلى انتخابات مسبقة بات مسألة وقت، وربما كان عنصر القوة لدى فريق المعارضة هو الرهان على رسالة الناخبين الذين شكل اقتراعهم بداية لرسم طريق استعادة الديمقراطية وهذا الأمر ليس ممكناً إلاّ بعد تغيير الأغلبية النيابية.
الحدث التركي كبير وستكون له تداعيات داخلية وعلى المنطقة، ومدخل استكمال التغيير الذي حملته الانتخابات المحلية حماية حرية الرأي والتعبير والتظاهر واستعادة العدالة بفك القيود المفروضة على القضاء، فتعود تركيا إلى دورها بعدما كادت مع الديكتاتورية الساعية لـ«عثمانية جديدة» تتحول إلى دولة مارقة أبرز حلفائها نظام الملالي في طهران!