فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

سعد الصويان وشَبَهُ نجد باليونان

يمثل العالم السعودي سعد الصويان ظاهرة فريدة في تاريخنا الأكاديمي لاعتباراتٍ كثيرة؛ منها صعوبة الحقبة التي ابتعث فيها ضمن 10 سعوديين عام 1965حتى قبل أن يعرف شكل التلفزيون. والسبب الآخر وعورة التخصص الذي اختاره في الأنثروبولوجيا، ومن ضمن مميزاته التواضع رغم غزارة المنتج الذي طرحه بين أيدي الأكاديميين والقراء والباحثين.
والصويان لم يُقرأ بشكلٍ مكثف رغم حضوره الإعلامي... لديه 10 لقاءات تقريباً، ومحاضرة عن تاريخ عنيزة عند الرحّالة، وأخرى موسعة في ديوانية بالرياض قاربت الساعات الثلاث... كلها على «يوتيوب». اللقاءات الإعلامية المهمة المنصفة له أحصرها في لقاءين اثنين، وله لقاء قصير على تطبيق لإحدى القنوات، وأقل ما يقال عن المذيع الذي قابله في فقرة ضمن برنامجٍ متنوع، إنه غاية في الجهل بتراث الصويان وإنتاجه.
ثم إن الصويان ممن درسوا ثقافة الصحراء وفهرس الشعر النبطي. البعض يعدّ كتابه «ملحمة التطور البشري» أهم كتبه، لكنه يرفض ذلك باعتبار أن لديه أطروحات أهمّ لأنها منطلقة من عمق اهتمامه المتفرد بثقافة الصحراء أو فهرسة الشعر النبطي.
انتقد الصويان بمرارة انسياق مثقفين وراء انطباعات متحيزة استلّوها من دعاية بعض عرب الشمال ضد عرب الجزيرة العربية، تحت ادعاء تفوق الحضارات النهرية، وهذا ادعاء بذل فيه الصويان جهداً حثيثاً؛ ومن أبرز ما كتبه المثال الصارخ بالتشابه بين نجد واليونان.
من المؤسف انسياق بعض العرب؛ ومنهم سعوديون، ضد نجد كأنها مجرد تاريخ فقر وتصحر وحروب، بينما الإنجاز الذي حققه أهلها أنهم قاوموا طبيعة التضاريس وتحدّوا كل الصعوبات، فنجد ميزاتها في القسوة التي أجبرت ساكنها على التكيف؛ كما يقول الدكتور سعد. لكن ما خلاصة التشابه بين نجد واليونان؟ لقد كتب عن ذلك مقالة مطولة يمكن اقتباس أبرز أفكارها لتوضيح مستوى الظلم الذي يرميه بعض الجهلة على نجد وتاريخها وثقافتها، وهنا مقتطفات منها:
* «كانت أوضاع الجزيرة العربية أقرب شبهاً ببلاد اليونان القديمة. ولنبدأ بالجغرافيا والمناخ. لا توجد في اليونان أنهار دائمة الجريان، ومناخها يميل إلى الجفاف، والزراعة فيها محدودة لقلة الأراضي الخصبة التي تتوفر فيها المياه، والتي تنحصر في السهول الضيقة التي تحيطها الجبال الجرداء. كل هذه العوامل تشكل عائقاً يحول دون ازدهار الزراعة وتجعل اليونان في حاجة مستمرة إلى الخارج في تأمين جزء كبير من متطلباتها الغذائية».
* «من أهم أشجار بلاد اليونان شجرة الزيتون التي تشبه النخلة في وفرة الإنتاج وعدم الحاجة إلى عناية فائقة، وكلتاهما ثمرتها سهلة النقل والحفظ، إلا إن كلاً منهما بطيئة النمو؛ تحتاج في البداية وقبل أن تبدأ الإنتاج إلى عمل شاق وصبر وجهد متواصل يتطلب سنيناً من الاستقرار السياسي. لذلك لا تزدهر زراعتها إلا في ظل سلطة قوية تفرض الأمن. وكان قطع أشجار الزيتون والنخيل من الأساليب المتبعة في الحروب لإضعاف المدينة المحاصرة وتجويع أهلها، ومن هنا أصبح غصن الزيتون وجريد النخل كلاهما يرمزان للسلام والاستقرار».
* «حالت وعورة التضاريس والطبيعة الجبلية دون الاتصال بين الجزر التي تتشكل منها بلاد اليونان، والتي تتناثر في البحر كما تتناثر الواحات في صحراء الجزيرة العربية التي تفصلها الرمال عن بعضها البعض».
* «أضف إلى ذلك أن شح الموارد في بلاد اليونان وفي بلاد العرب دفع بالسكان هنا وهناك إلى المغامرة وامتهان التجارة والنقل والعمل في مجالات الاستيراد والتصدير. ومثلما كانت سفن التجار الإغريق تمخر عباب بحر إيجه وتصارع أمواجه العاتية؛ كانت إبل العقيلات تخترق متاهات الصحراء العربية ومفازاتها».
* «البعير، سفينة الصحراء، جعل الإبحار في الصحراء أمراً ممكناً. وكما هي الحال في أثينا القديمة أو إسبرطة، يشكل التجار في إمارات وسط الجزيرة العربية ومدنها المستقلة، وبالتحديد تجار عقيل، طبقة أوليجاركية تلعب دوراً مهماً في تشكيل سياسة المدينة ورسم علاقتها مع القرى والمدن».
* «على رغم التشابه بينهما، لم تنجب نجد مثلما أنجبت بلاد اليونان فلاسفة ومفكرين يبحثون في نشأة الكون والدولة والمجتمع؟ لماذا شعّ نور العقل والعلم من بلاد اليونان ليضيء الدنيا والعالم كله، بينما نجْد تئد العقول والبنات ويرى أهلها في العلمانية جرماً يحاكم عليه الإنسان؟ شمس المعرفة عندنا دائماً عليها غيوم، غيوم تحجب النور ولا تمطر الغيث».
هذه المقارنة من الصويان تفتح الآفاق أمام الباحثين بأن لمعة المقارنة تحتاج إلى نسبة كبيرة من الاستقلالية الضرورية، والمشكلة أن كثيراً من الأكاديميين وقعوا ضحايا الآيديولوجيات المتخشّبة التي تمنع العين من رؤية الزوايا المغايرة، وتحرمها من التأمل خارج الأنماط السائدة والانطباعات المعلّبة، حتى بات بعض المثقفين الفرحين بما لديهم يحتقر النخلة والبعير والصحراء والقهوة العربية، وذلك بسبب ما يدّعي أنه تأثر بالغرب، مع أن الصويان الشغوف بالصحراء وثقافتها أعرق منهم في اطلاعه الغربي، وهو الغارق الأبرز بأميركا، والدارس فيها سبعة عشر عاماً، والذي طبعت له جامعة كاليفورنيا - بيركلي أطروحته، وهذا نادراً ما يحدث، ومع ذلك لم يقع في فخ ذلك الاحتقار.
ميزة الصويان التواضع؛ حتى إنه ينتقد أطروحته عن الجن. من النادر أن تستمع إلى مثقف عربي ينتقد إحدى أطروحاته؛ بل إن معظمهم متغطرسون طواويس.