سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

الجنرال في أنقرة لا يجد مَنْ يحادثه!

كما تجرع آية الله الخميني كأساً من السم، وهو يوقع قرار وقف إطلاق النار مع العراق عام 1988، فإن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد راح يتجرع كأساً مماثلة، وهو يهنئ أكرم إمام أوغلو، مرشح المعارضة الذي فاز بموقع العمدة في إسطنبول!
لقد صار الرجل عمدة على المدينة الأهم سياسياً في تركيا، والأكبر اقتصادياً، وهذا ما لم يكن يخطر لإردوغان على بال، ولا كان في خياله وهو يطلب إعادة الانتخابات قبل نحو شهر من الآن، أنه سيجد نفسه مضطراً إلى تهنئة مرشح المعارضة، ولذلك، فالتهنئة تبدو صادرة من وراء قلبه، أكثر منها نابعة من وجدانه الحقيقي، أو خالصة لوجه الله، أو لوجه الفوز في حد ذاته، حتى ولو أقسم على صدق تهنئته بكل مقدس يؤمن به ويعتقد فيه!
وإلا، فهل ننسى أنه هو نفسه كان قد أعلن قبل أيام من إجراء انتخابات الإعادة، أن أوغلو الذي كان قد فاز في انتخابات الجولة الأولى، إنما هو من بين أنصار فتح الله غولن، ومن أتباعه، وأنه سيخضع للحساب، وربما العقاب، بعد إعلان نتيجة جولة الإعادة؟! هذا ما لا يجوز أن ننساه لإردوغان؛ لأنه شيء يمكن أن يكشف عن طعم التهنئة في فمه، وكيف أنها كانت في مرارة العلقم أو أشد!
لم يكن إردوغان يتصور أن نتيجة الجولة الثانية سوف تأتي على غير ما يشتهي هكذا، تماماً كما أتت أيضاً نتيجة الجولة الأولى التي جرت في الحادي والثلاثين من مارس (آذار) الماضي!
ولو كان حول الرئيس التركي ناصح أمين، لكان قد أشار عليه بعدم الدعوة إلى إعادة الانتخابات في إسطنبول بالذات، لا لشيء إلا لأن خسارته في الجولة الأولى كان من الممكن استيعابها من جانبه، وتبريرها، وتمريرها، أما فوز أوغلو في جولة الإعادة فهي مسألة من الصعب على سيد تركيا ابتلاعها، فضلاً عن مضغها وهضمها، مهما بدا متماسكاً بعد الإعلان عن فوز مرشح المعارضة، ومهما بدا متقبلاً له على مضض، ومهما كتب من عبارات التهنئة والمباركة!
لقد كان في إمكانه، وفي إمكان حزب «العدالة والتنمية» الذي يتزعمه، التشكيك في فوز مرشح المعارضة في الجولة الأولى، وكان في مقدوره أن يظل من خلال إعلامه يهيل التراب على فوزه، ويحيط الفوز بكثير من الدعايات، وعلامات الاستفهام، والشائعات، وربما الأكاذيب!
كان هذا ممكناً بعد إعلان فوز أوغلو في الجولة الأولى، وكان هذا سيكون محل تصديق لدى فريق من الأتراك، وموضع تكذيب لدى فريق آخر، وفي الإجمال كان من السهل إحاطة الفوز وقتها، ثم بعدها، بكثير من قنابل الدخان التي تشوش على الرؤية، وتجعل وضوحها متعذراً!
أما الآن، ومع مجيء نتائج جولة الإعادة على ما جاءت عليه، فالأمر اختلف كلياً؛ لأن فوز مرشح المعارضة صار مؤكداً بنسبة مائة في المائة، ولأن خسارة بن علي يلدريم، مرشح «العدالة والتنمية» للمنصب نفسه، قد صارت مؤكدة بالنسبة ذاتها، ولأن الفجوة التي كانت بينهما في نتيجة الجولة الأولى قد راحت تتسع أكثر لصالح المرشح المعارض في نتائج جولة الإعادة، وكأن الناخب التركي قد قرر أن يبعث برسالة من خلالها، ملخصها أن رصيد الرئيس ينفد، وأن حزبه الذي قضى 16 عاماً في السلطة، مقبل على فترة صعبة لم يعرفها من قبل على مدى سنوات وجوده في مقاعد الحكم!
ولا بد من أن الشيء الذي يحز في نفس إردوغان بقوة، أن هذه هي إسطنبول التي كان قد فاز بموقع العمدة نفسه فيها عام 1994، ممثلاً لحزب الرفاه الإسلامي وقتها، ثم هذه هي إسطنبول التي عمل هو من أجلها رئيساً للبلدية سنوات، وقد كان أداؤه فيها طوال وجوده عمدة على قمتها مضرب المثل لدى كثيرين كانوا في المنطقة من حول تركيا، يريدون أن تكون هذه المدينة في بلادهم، أو تلك، صورة من إسطنبول التي بنى فيها عمدتها إردوغان، وأصلح، وراكم، وأضاف!
فماذا جرى للناخب الإسطنبولي بالضبط؟! هذا سؤال لا بد من أنه ظل يؤرق الرئيس التركي، خلال الفترة التي تلت الإعلان عن نتائج الجولة الأولى. والمؤكد أنه سؤال قد تحول بعد نتائج جولة الإعادة إلى كابوس يطارد إردوغان، ليس فقط في منامه، وإنما في يقظته سواء بسواء!
صحيح أن نتائج انتخابات البلدية في مجملها جاءت لصالح «العدالة والتنمية»، ولكن ما هو أصح من هذا الصحيح، أن الحزب خسر في أربع مدن كبرى، كانت إسطنبول في المقدمة منها بحكم تاريخها وحاضرها، سياسياً واقتصادياً، ثم كانت المدن الثلاث الأخرى هي أنقرة، وإزمير، وأنطاليا!
ولم يكن مرشح «العدالة والتنمية» على موقع عمدة إسطنبول على وجه التحديد، أي مرشح، بحيث يمكن تحميله هو نتيجة الانتخابات بعيداً عن الحزب، ولكنه كان بن علي يلدريم، رئيس الوزراء السابق، ورئيس البرلمان السابق كذلك، والرجل المقرب من الرئيس، والوجه السياسي المعروف في الحياة السياسية!
كانت لافتات دعايته الانتخابية تملأ شوارع المدينة طوال فترة الدعاية الانتخابية في الجولتين، وكانت صورته معلقة في كل ركن، ولم يكن وحده في الصور كلها، ولكن صورة الرئيس كانت إلى جواره في كل صورة، وكأن إردوغان كان هو المرشح، ولم يكن لذلك كله من معنى سوى أن يلدريم محل ثقة الرئيس الكاملة، وأن الرئيس شخصياً يسانده ويدعمه، وليس الحزب الحاكم وحده، وأن على الناخب أن يراعي ذلك وينتبه إليه، إذا ما ذهب يعطي صوته في صندوق الاقتراع!
ولكن رسالة الناخب في المقابل جاءت في غاية القوة، وفي غاية الوضوح، وقد بلغت في قوتها وفي وضوحها حداً جعل الرئيس لا يبتلع خسارة مرشح حزبه، الذي هو مرشحه هو، وفقط، ولا يتقبل فوز أوغلو، وحسب، ولكن يذهب رغم أنفه إلى تهنئة مرشح كان يتوعده فيما سبق بالحساب والمساءلة، على علاقة غير ثابتة بفتح الله غولن، الذي أصبح شماعة جاهزة يعلق عليها إردوغان كل خطاياه!
لا شك في أن الرئيس التركي يخلو بنفسه كثيراً هذه الأيام، ولا شك في أنه يملك كثيراً من الأسئلة، وقليلاً من الأجوبة، ولا شك في أنه يسأل نفسه طويلاً عما جعل الناخب يتحول عنه وعن حزبه بهذه الطريقة، فلا يقع على إجابة، ولا يسعفه بها أحد ممن يحيطون به، ويزينون له كل أمر، ويصفقون له عند كل قرار، ويضحكون في وجهه عند كل لقاء، ويصورون الدنيا أمامه على أنها كلها ربيع في كل صباح!
لا شك في هذا، ولا شك في أن حالته هذه تستدعي إلى الأذهان رواية «الجنرال لا يجد من يحادثه» التي كان غابرييل غارسيا ماركيز قد كتبها، وكأنه يصور بها حالة إردوغان دون أن يراه، أو كأن إردوغان هو النموذج الذي قصده ماركيز على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر بطبيعة الحال!