سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

إحياءً لروح الموصل

ورشة هي الأضخم، التي تقودها اليونيسكو حالياً، هدفها «إحياء روح الموصل»، المدينة المقهورة، المهجورة، التي تحولت إلى مسرح أشباح. مشروع يتجاوز إعادة البناء، إلى تضميد الجراح، ونسج اللحمة بين الأهالي. فما فعله «داعش» طوال ثلاث سنوات، سيطر خلالها على المدينة، وحكمها بالحديد والنار، دمّر ما يقارب 20 ألف مبنى، بينها عشرات التحف المعمارية الفريدة ذات القيمة العالمية، هشّم نفوساً، غسل أدمغة، فتت النسيج الاجتماعي بتعدديته الاستثنائية. من مدينة كانت همزة وصل، ولمئات السنين، بين شعوب المنطقة (من هنا أتى اسمها)، ابتكرت موسيقاها وصناعاتها اليدوية، وسجادها وصدرت منتوجاتها، إلى مركز رئيسي لأعتى تنظيم شهده العصر الحديث وأكثرها ظلامية.
كم الخراب الذي تركه وراءه التنظيم، حين دحر عام 2017 لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية. الشرذمة هجّرت السني والشيعي والمسيحي. لم يميز أشاوس «داعش» بين كردي وإيزيدي، صابئي أو تركماني، مندائي أو شبكي. أديان وملل التقت عند هذه الضفة الخصبة من دجلة وتثاقفت، منها ما لم نسمع عنه من قبل. تعايشت الأعراق والأديان، وإن اختلفت أحياناً، حتى وصل وحوش العصر وفتكوا بكل ما وقع تحت أيديهم. انهالوا على المساجد قبل الكنائس. «منارة الحدباء» التاريخية الشهيرة التي صمدت في وجه الريح والزمن دمرها التنظيم، ولا يزال مشهدها المريع حياً في الأذهان، سحق «جامع النوري» بجانبها، ولم تبق منه سوى قبته الخضراء تنتظر من ينقذها.
ثمة مسح رقمي بالأبعاد الثلاثية، قامت به اليونيسكو، شمل كل الأجزاء القديمة في الجهة الغربية من المدينة بمبانيها الأخاذة التي يعتبر بعضها أيقونات حقيقية لم يبق منها سوى أشلاء. بدأ استدراج المناقصات، لإعادة البناء أو الترميم. بالطبع الجامع ومنارته والمباني المحيطة بهما، أولوية بالنسبة للسكان، للإحساس بأن رموزاً لا يمكن تصور المدينة من دونها قد عادت إلى مكانها. الاهتمام منصب أيضاً على بناء جامع «النبي يونس» المشيد فوق كنيسة «القديس يونان»، وهو مكان له رمزيته للأديان السماوية الثلاثة. لائحة التحف المعمارية الأثرية تطول، وكل واحد منها له نكهته التي تجعله أولوية مثل مدينة نمرود، جنوب الموصل، درة الحضارة الأشورية، كانت أهم منجم للآثار طوال القرن العشرين. مسح التنظيم الموقع بالجرافات التي أكلت أسنانها الفولاذية كنوزاً تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
لكل دين حصته في المجزرة. إلى جانب المساجد والأضرحة التي تبلغ المئات، ثمة أديرة وكنائس تعود إلى القرن الرابع الميلادي، يوم كانت الموصل مركزاً مسيحياً. «كنيسة الساعة» فخخت جنباتها لإنهاء وجودها، مع أنها فتنة للناظر إليها من الخارج كما في استدارات صالاتها وقبابها الداخلية المدهشة.
أجهز «داعش» على كل شيء، بما في ذلك المكتبات، من «شارع النجفي» الشهير، إلى مكتبة الدومينيكان التي كانت تحوي 55 ألف كتاب، ومكتبة «جامعة الموصل» ذات المليون مؤلف، والتي اعتبرت دائماً، من أهم مكتبات المنطقة عمراناً ومحتوى.
لم يرحم «داعش» حتى المدارس التي رأى فيها ربما ضلالاً لا يحتمل. لذلك تدرك «اليونيسكو»، أن التعليم في كل مراحله منكوب، و«إحياء روح الموصل» يتطلب العمل على ثلاث جبهات على الأقل: إعادة المباني الأثرية إلى حياة الأهالي، خاصة أنها جزء من يومياتهم ومكان لأعمالهم وعباداتهم، وترميم النظام التعليمي الذي هشّم، وتأهيل الأطفال الذين جندت «داعش» ما يقارب 30 ألفا منهم وبثت في عقولهم سموم البغضاء، ومن ثم العمل على إعادة السكان بمختلف أطيافهم إلى ديارهم، لتأمين التنوع السكاني من جديد. فالموصل كانت مفترقاً للقوافل الآتية من الهند والصين، ومشتهى للغزاة الطامعين الذين ما إن تدحر جهة منهم عن المدينة حتى تبتلى بغيرهم. ومن بين هؤلاء من استأنس بخضرتها وعذوبة مائها، وطيب مناخها، ورقة أهلها الذين من بينهم خرجت عبقرية زرياب في الموسيقى وابتكاراته في فن ترف المائدة والمأكل واللباس، ومن أزقتها انسابت نغمات عود منير بشير الشجية، وروح ابن الأثير الموسوعية.
هي واحدة من المدن الفريدة في المنطقة، ومن أقدم مدن العالم، لا يشبه معمارها الحواضر العراقية الأخرى حيث شيدت مبانيها من الحصى والرخام، ونامت على مراكمة ثقافات وهضم حضارات ومثاقفة عقائد وأديان، كل ذلك جعل منها نموذجاً إنسانياً يستحق ليس فقط الاحتضان، بل إنقاذها بوصفها نموذجاً تتوجب صيانته برموش العين. هذا ما تعتقده «اليونيسكو».
لكن ما يقال عن الموصل قد يشبه ما نراه في حلب، وله ما يماثله في تدمر، وكم من كنوز حولنا عميت عنها البصيرة، واعتادتها العين حتى ظننا أنها من بدهيات العيش، وفرطنا فيها كما لو أن استعادتها كسهولة نحرها، وإحياءها ممكن بعد قتلها.
ما كان لـ«داعش» أن يمارس «التطهير الثقافي» و«الإعدامات الأثرية» في مدينة بها هذا القدر من الجماليات التاريخية، والقيم الإبداعية، لو أن الذائقة العامة من الرفعة بحيث تدرك عظمة ما راكمه الأجداد وشيدوه بسواعدهم، وعمق معارفهم. وما ينطبق على الموصل يصح على غيرها من مدن أبيدت في السنوات الأخيرة، ومتاحف اغتيلت وأسواق قديمة اختفت. لهذا ما تسعى إليه اليونيسكو بالتزامن مع البناء الحجري، إعادة ترميم ثقافة السكان. وهو ما ينادي به أمين معلوف بصوت مرتفع في كتابه الجديد «غرق الحضارات». وفي مقابلة أخيرة معه يشرح أن «الثقافة في يومنا هذا أهم من أي وقت مضى، لأن مشكلاتنا ثقافية في المقام الأول... نحن اليوم نختلف عمن سبقنا بأننا نمتلك الأدوات، والقدرات التكنولوجية والاقتصادية، لحل معضلاتنا. لكن معركتنا الحقيقية ليست هنا، إنما في تعزيز حس انتماء حقيقي للمجموعة البشرية. ما نفتقده هو القدرة على بناء علاقات وثيقة مع المختلف. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الثقافة، والمعرفة العميقة والحميمة، بثقافات الآخر بأدبه، بموسيقاه، كي يتاح لنا تجاوز الأفكار المسبقة».