خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

«إياك أعني واسمعي يا جارة»

هذا مثل قديم؛ كثيراً ما نستعمله للتعبير بصورة غير مباشرة، أو بطريق المجاز والتشبيه، عمّا في أذهاننا، بحيث يفهمه السامع من دون مجابهته أو خدش مشاعره. كما يقال أحياناً ممن يخاطب شخصاً ويقصد بكلامه شخصاً آخر. وهو من الأمور الشائعة في المجتمعات التي اعتادت مراعاة قواعد الأدب واللياقة. حسن المقال من أهم القواعد الاجتماعية التي تتضمن هذا المثل وشاعت في التراث العربي منذ أقدم العصور. عبّر عنها الشاعر بقوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وترددت الأمثال الشعبية وهدرت في حثّ الإنسان على حسن المقال والحذر من زلات اللسان وإثارة السامع. نقول: «الجواب في محله أحلى من العسل». ونقول: «حلي لسانك وكل الناس خلاتك»، و:«كم من فم سفك دم». ويقولون في المملكة العربية السعودية: «قال وش قاطعك يا راسي؛ قال لساني»، و«كل كلمة لها مكيال». و«كِلْمَة وِرَدّ غطاها»... وكذلك: «عثرتك برجلك ولا عثرتك بلسانك». ومن الأقوال الشائعة في لبنان: «ألف كَسْرة رِجل ولا كسرة خاطر». ومن الأقوال الشائعة في اليمن: «من عاش مداري (أي يداري خواطر الناس) مات مستور».
نحن أدرى بذلك بصفتنا مسلمين، وكتابنا الحكيم مليء بالمواعظ التي تحثّ المسلم على حسن القول والكلمة الطيبة.
أما أصل مثل «إياك أعني واسمعي يا جارة»، فيعود إلى رجل من بني فزارة؛ هو سهل بن مالك الفزاري، وكان في طريقه إلى مدينة الحيرة بالعراق للالتحاق بالملك النعمان... مرّ بحي من أحياء بني طي، فسأل عن سيد الحي، فقالوا له إنه حارثة بن لأم. فتوجّه نحوه فلم يجده، ولكنه صادف أخته، فرحبت به وأنزلته وأعدت له ما كان من طعام وشراب.
وعندما خرجت من خبائها لاحظ ما كان لها من جمال وحسن قامة. وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائهم، فأصابه ما أصابه من هواها. ولم يعرف كيف يفتح لها قلبه ويكاشفها بحبه، فجلس في فناء الخباء يوماً وهي تسمع صوته، وجعل ينشد ويقول:
يا أخت خير البدو والحضارة
كيف ترين في فتى فزارة؟
أصبح يهوى حرة معطارة
إياك أعني واسمعي يا جارة
بيد أن كلماته لم تقع في نفسها بما كان يرجوه الفزاري. فأنشدت من وراء الخدر، وقالت:
إني أقول يا فتى فزارة
لا أبتغي الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هذي الجارة
فارحل إلى أهلك باستخارة
فخجل الرجل من نفسه وقال: «ما أردت منكراً... واسوأتاه». فاستحت من تسرعها وقالت: «صدقت». ثم ارتحل، وأتى النعمان فأكرمه، ثم عاد من حيث أتى، ومرّ على الديار نفسها. وبينما نزل عند أخيها، تطلعت إليه نفسها، فأرسلت إليه أن «اخطبني من أخي إن كانت لك حاجة بي». فخطبها وتزوج بها، وسار بها إلى قومه، فحكى لهم حكايته وما أنشده من شعر وما ردت به عليه من شعر... فسارت كلماتهما مثلاً بين العرب؛ بدواً وحضراً.