خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

السعي إلى الرخاء

المشروع المقدم من الإدارة الأميركية في ورشة عمل المنامة جديد في تفاصيله، لكنه قديم كفكرة: الرخاء الاقتصادي، ربط مصالح الشعوب ببعضها، سيكون الطريق الوحيد لسلام مستقر. فكرة طرحها شيمعون بيريس من قبل في مشروع الشرق الأوسط الجديد. في أوائل التسعينيات.
فكرة شيمعون بيريس كانت مبنية على مشروع سياسي جاد، أو هكذا بدا. كان هناك مؤتمر مدريد، ثم اتفاق أوسلو. وعودة قيادات منظمة التحرير الفلسطينية إلى وطنها. رغم هذا، لم ينجح المشروع. لأن فشل هذا المشروع السياسي الطموح قضى على المشروع الاقتصادي أيضاً. والمشروع السياسي فشل رغم أنه شهد أكثر الخطوات إيجابية في تاريخ الصراع، وصولاً إلى العرض الأخير أثناء فترة حكم الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
رفضُ هذا العرض من جانب الفلسطينيين منح اليمين الإسرائيلي مصداقية لرأيهم السابق: الفلسطينيون لا يريدون السلام، ولا يملكون القيادة التي تستطيع أن تجمعهم على حل وسط. كما أثبت لفلسطينيين رأيهم السابق: أن الإسرائيليين ليسوا مستعدين للسلام بناء على حدود 1967. لن يفاوضوا على القدس، ولن يفاوضوا على عودة اللاجئين. رغم الشرعية الدولية المؤيدة. كلا الطرفين المشاركين في تلك الجولة من التفاوض اتهم الآخر بالرضوخ للمتشددين داخل بلاده. الفلسطينيون اتهموا الإسرائيليين بالرضوخ للرؤية اليمينية. والإسرائيليون اتهموا الفلسطينيين بالرضوخ للإسلاميين. وبتضييع فرصة أخرى لن تعوض.
هذا متوقع، وطبيعي. لكن يبدو أن مشكلة الفلسطينيين الحقيقية كانت شهادة بيل كلينتون، الطرف الراعي للمفاوضات، وثاني رئيس ديمقراط يحاول بإصرار التوصل إلى حل. الأول كان جيمي كارتر الذي شهد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية قبل أربعين عاماً كاملة. ورفض الفلسطينيون المشاركة، وشنت الممانعة حملة تحريض على الرئيس السادات أفضت في الأخير إلى اغتياله.
بيل كلينتون حمَل الجانب الفلسطيني مسؤولية الفشل. وبعده لم يحاول رئيس أميركي بذل جهد في هذا الاتجاه. صحيح أن الجمهوري جورج بوش كان أول رئيس أميركي يتبنى سياسة أميركية صريحة تقوم على حل الدولتين، لكنه لم يسعَ إليها، وبوفاة ياسر عرفات صارت «حماس» صاحبة القول الأقوى في فلسطين. وجاء بعده باراك أوباما فلم يبذل مجهوداً يذكر.
لم نعرف بعد خطة ترمب للسلام، ولن نعرف قبل انتخاب حكومة إسرائيلية جديدة. لكننا نعرف أنه مقتنع الآن بأن السلام السياسي خطوته الأولى تضافر المصالح الاقتصادية. أو لنقل إنه مقتنع أن هذا هو الاختبار الحقيقي للنوايا. حيث «حماس»، صاحبة الصوت الأعلى بين الفلسطينيين، موقفها الرسمي حتى الآن يشبه الموقف الإيراني، والموقف الدعائي الإخواني: القضية قضية دينية، وليست قضية شبر هنا أو متر هناك.
هذه الفكرة فقط - الرخاء طريق السلام - هي الجانب الذي نعرفه من الخطة. وهي ما نملك التعليق عليه.
الرافضون لهذه الفكرة مبدئياً يقولون إنها تعفي إسرائيل من الضغط الحاصل طالما هي بعيدة عن السلام.
المؤيدون لها يقولون إنها لا تتعارض مع عملية السلام. بل تحفز عليه، بتشجيع الأطراف على رؤية العالم الذي يصنعه. وإثبات قدرتهم على التعايش. بعدها لن يكون «التقسيم الإداري» لمناطق الحكم هو المسيطر على أذهانهم. من وجهة نظر المؤيدين، الخيار بين حالين: السير في مفاوضات السلام، مع ضنك معيشي وانهيار للثقة. أم السير في مفاوضات السلام مع حالة معيشية أفضل وبناء للثقة.
من وجهة نظر المعارضين، الخيار بين حالين: تعثر في السلام بلا أمل في استمرار المقاومة لاسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني. أم تعثر في السلام مع استمرار المقاومة والأمل.
تبقى الحقيقة الغائبة عن هذا الجدل. أن مسار الأحداث والصراعات - التي ساهمت فيها جماعات دينية واستخدمت فيها فلسطين شعاراً - قد قادت إلى تغول قوى إقليمية توسعية. «حزب الله» عمل لصالح إيران، جماعة «الجهاد» الفلسطينية انحازت إلى إيران، أما «حماس» الفلسطينية فغيرت انحيازاتها بين المحور الفارسي والمحور العثماني. جماعة «الإخوان المسلمين»، الجماعة الأم، شاركت مشاركة فعالة في تغول الحلف العثماني، لم تعد حتى تحاول إخفاء ذلك أو توريته. بل جعلت من إسطنبول مقراً علنياً لقيادة الحرب.
هذه التطورات الواقعية جعلت الدول الوطنية في المنطقة تدرك أن الأطراف الفاعلة في فلسطين وضعت ثقلها في كفة خصوم إقليميين توسعيين، خطرهم مباشر وواضح. وأن على الدول الوطنية الآن أن تتخذ من الترتيبات ما يساعدها على مواجهة هذا الخطر المباشر، النشط، والآني.
من هذه الإجراءات بناء تحالفات إقليمية تعدل ميزان القوى، وتجمع بين من مصلحتهم مواجهة القوى التوسعية، ومن في مصلحتهم تحقيق استقرار ورخاء يضمن لهم القدرة على تحريك مجتمعاتهم في اتجاه العصر الحديث.
جهل الجماعات الدينية والفصائل بالعاقبة السياسية لأفعالهم وتحالفاتهم على مدى العقود السابقة لا يعفيهم من المسؤولية، كما أنه لن يغير الأمر الواقع حالياً، وطريقة التعامل معه. السياسة هي ما يحدث على الأرض، وليس في الأمنيات. قطار تحالف «السعي إلى الرخاء» سيمضي برغبة سيادية لمن يريد. لن يجبر أحداً على قطع تذكرة. لكن اختيار قطار آخر لن يغير جدول الانطلاق. أو على الأقل هكذا أفهم ديناميكية السياسة.