د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

مجموعة العشرين وتحديات «الاقتصاد الرقمي»

انتهت قمة الدول العشرين الأكثر تقدماً اقتصادياً، والأكثر نفوذاً في الاقتصاد العالمي، في أوساكا باليابان، بعد يومين من المناقشات الساخنة حول كثير من القضايا والتوترات التجارية؛ لا سيما بين الصين والولايات المتحدة، والالتزام بالمعاهدة الدولية الخاصة بحماية البيئة الموقعة في باريس 2015، وإصلاح منظمة التجارة العالمية، وحماية التجارة الحرة، والبحث في مخاطر الحمائية الفردية، وضمانات التعددية في العلاقات الاقتصادية العالمية، والاستعداد للاقتصاد الرقمي.
ورغم هيمنة الأخبار الخاصة باللقاءات الثنائية بين عدد من قادة العالم لبحث أزمات تؤثر على العالم كله، نظراً لعلاقتها المباشرة بالتجارة العالمية، وضمان الأمن في المناطق الأكثر توتراً، فإن قمة أوساكا يحسب لها أيضاً تركيزها على قضية ترتيب الاقتصاد الرقمي، وفقاً لما أشير إليه بـ«مسار أوساكا».
كان رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في حواره مع «الشرق الأوسط» قبل يومين من عقد قمة أوساكا، قد أشار إلى أهمية وضع الضوابط الدولية لترتيب الاقتصاد الرقمي، ووضع القواعد المناسبة لإعداد المجتمعات لما يعرف بالمجتمع الخامس في حياة البشرية، بعد كل من مجتمعات الصيد والزراعة والصناعة ومجتمع المعرفة. وأهم عناصر هذا الترتيب ما يتعلق بالتدفق الحر للمعلومات، وحقوق الملكية الفكرية، وخصوصية حياة الأفراد، وحماية البيانات المتعلقة بالكيانات الاقتصادية والتجارية والمالية المنخرطة في هذا النوع من التفاعل الاقتصادي المعلوماتي. ووفقاً لرؤية آبي فإن مجتمع الاقتصاد الرقمي هو مجتمع يعتمد على الشعب، والمعطيات هي محرك النمو، والإفادة منه هي لكل الناس، والضروري أن تتدفق المعطيات في شكل حر مصحوبة بالثقة بين المستهلكين وقطاع الأعمال بالنسبة إلى الخصوصية.
في كلمة الرئيس ترمب في الاجتماع الخاص حول العلاقات التجارية والاقتصاد الرقمي، ركز على ما وصفه بعناصر التجربة الأميركية في الاقتصاد الرقمي، وعلاقتها بالابتكار والإبداع، وتحقيق النمو المستدام وحرية الوصول للمعلومات، معتبراً أن النجاح الأميركي في مجال الاقتصاد الرقمي قائم على التدفق الحر للبيانات، والخصوصية القوية، وحماية الملكية الفكرية، والولوج إلى رؤوس الأموال والإبداع، والتزام الولايات المتحدة باستدامة هذه المقاربة في المستقبل البعيد، وضمان ذلك مع الشركاء في العالم.
أما كلمة الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، التي جاءت في الجلسة الختامية، باعتبار أن المملكة سوف تستضيف القمة المقبلة في ديسمبر (كانون الأول) 2020، فقد تضمنت إشارة مهمة إلى ضرورة إصلاح النظام الضريبي للاقتصاد الرقمي على المستوى العالمي. وفي خطابات متحدثين آخرين تمت الإشارة إلى إشكالية دعم التدفق الحر للمعطيات، وعلاقتها بالاستخدام السيئ للإنترنت، وما يحدث في مجال الترويج للإرهاب، وضرورة وضع معايير واضحة تنهي هذه الإشكالية، كشرط مهم وضروري لحماية تدفق المعطيات والمعلومات.
رغم بعض الاختلافات الواردة في رؤى قادة كبار، فإن مجمل معطيات الواقع الاقتصادي والتكنولوجي الراهن، تؤكد حقيقة أن الاقتصاد العالمي في السنوات العشر المقبلة سوف يواجه تحديات كبرى، بفعل التحولات الجذرية في أنماط الإنتاج والتسويق والإبداع والتعاملات التجارية والنقدية والمالية بين الأفراد والشركات والدول. وهي تحولات ارتبطت بالنمو الكاسح للمعلومات والبيانات، أو ما يعرف بالـ«Big Data» ومجتمع المعرفة، والاتجاه المتصاعد بقوة نحو ما يعرف بالذكاء الاصطناعي و«الأتمتة»، وكلاهما مرتبطان بتوفر المعلومات والبيانات، وإبداع التطبيقات المناسبة لحركة الآلة، وفقاً للمطلوب منها في النشاط الصناعي، ومرتبطان أيضاً بتطور وسائل الاتصال ذاتها، والدخول في مرحلة «G5»، الأكثر سرعة في نقل البيانات، وفي تعدد مساراتها في آن واحد، وما يتم التبشير به بتكنولوجيا الأشياء المسيّرة ذاتياً، أو القادرة على التفكير الذاتي بضوابط معينة، لاتخاذ قرار متعلق بدورة الإنتاج.
الاقتصاد الرقمي بهذا المعنى، والذي يعيش العالم بعض مظاهره الأولى المتنامية، كالتجارة الإلكترونية المتصاعدة عالمياً، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والعملات الرقمية في تطبيقاتها الأولى، والبنوك الذكية في محاولاتها الأولية، وثورة المعلومات غير المسبوقة، والاتجاه نحو اعتماد أكثر على الآلات والروبوت في الصناعة، والحديث المتنامي حول طبيعة سوق العمل الجديدة والوظائف القابلة للاختفاء وتلك المرجح ظهورها، والتطبيقات والبرامج الحاسوبية لإدارة سلوكيات فردية وجماعية ومؤسسية، وظاهرة «المستهلك التفاعلي»، وتكنولوجيا الأشياء الذكية، والصناعة المعلوماتية، كل ذلك وغيره يشكل فرصة وتحدياً في آن واحد، فهو يعد فرصة لمزيد من إبداع الأفراد وتيسير حياتهم، من خلال الاعتماد أكثر وأكثر على الآلات الذكية، والمبرمجة سلفاً، والأكثر قدرة على الإنتاج الفائق الجودة والأقل تكلفة. والتطبيقات المتنوعة التي تشكل معظم حركة الحياة للفرد والمجتمع والمؤسسات، وتخلق وقائع افتراضية، سيكون من المهم ضبطها لحماية الفرد والمجتمع من التدخلات الزائفة والمضللة.
أما التحدي، فهو مجال يتسع يوماً تلو آخر، ويكمن أولاً وأخيراً في مدى استعداد المجتمعات والدول والمؤسسات لوضع الضوابط التي تحكم حركة هذا الاقتصاد البازغ، وتأكيد مبادئ حماية الخصوصية، وحماية حقيقية للملكية الفكرية، والتوازن في تبادل المعلومات بين المجتمعات المختلفة، سواء كانت متقدمة أو ساعية للنمو، واعتماد التعددية المطلقة كنمط لإدارة شؤون الاقتصاد الرقمي المستقبلي، ومحاصرة أو التخلص من الحمائية، والخطوات الأحادية لفرض واقع معين في بقعة معينة من العالم، وإعادة هيكلة المؤسسات المالية والنقدية والتجارية الدولية الراهنة، للتوافق مع الضوابط التي سيتم الاتفاق عليها بين الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى، من خلال آليات تعددية منفتحة على كل الأفكار والهواجس والمصالح، وتطوير نظم الإدارة بما يتوافق مع هيمنة المعلومات، وتطوير نظم التعليم ورفع المهارات البشرية، وصولاً إلى صيغة متوازنة تحقق مصالح العالم كله، في ظل اقتصاد رقمي متحرك وليس له قيود في الخيال والإبداع والابتكار والكسب، وأيضاً تقييد احتمالات الاستغلال وتعظيم النفوذ؛ لا سيما لدى المجتمعات التي حققت خطوات كبرى في مجالات تقنيات الاتصالات وثورة المعلومات والبيانات، وسبل مواجهة الجريمة المعلوماتية.
هذه القائمة الأولية من الفرص والتحديات، من المرجح أن تحكم حركة قمم مجموعة العشرين في السنوات الخمس أو العشر المقبلة، وسيكون من المفيد في كل قمة مقبلة أن تحسم قاعدة أو قاعدتين تحكمان حركة الاقتصاد الرقمي في مجال بعينه، والبناء عليها في القمة اللاحقة وهكذا. وهو يتطلب استعداداً وحواراً مكثفاً بين مجموعات من الخبراء في كافة المجالات، لتحديد المشكلة ووضع الإطار المناسب لحلها، بما يحقق مصلحة عالمية متوازنة.
وأتصور أن قضية إصلاح النظام الضريبي العالمي للاقتصاد الرقمي، يمكن أن تكون بداية جيدة في هذا السياق، وأن يتم التوافق العالمي حولها في قمة مجموعة العشرين المقبلة، التي ستعقد في المملكة العربية السعودية.